أوقفوا العالم، لقد ضاع المسار - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أوقفوا العالم، لقد ضاع المسار - تكنو بلس, اليوم الخميس 19 يونيو 2025 01:18 مساءً

فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

كتبتُ هذه المقالة من وحي الحرب الإيرانية الإسرائيلية، حين رأيت العالم يقف متفرّجاً، منقسماً، مأزوماً... فتفجّرت في ذهني أسئلة قديمة بحسرة جديدة: ألهذا الحدّ بلغنا من العجز؟ أين الحكمة التي راكمها الإنسان؟ وأين الإيمان الذي بشّر بالرحمة؟

لم نصل إلى هذه اللحظة لأننا تائهون صدفة. ليست مصادفة أن يكون بين أيدينا كل ما حَلِم به الإنسان منذ ألوف السنين، ثم نجد أنفسنا عاجزين عن إنقاذ طفلٍ من تحت الردم، أو إيقاف حربٍ تعصف بمستقبل المنطقة.

كل ما أنجزه البشر من ديانات سماويّة، ومدارس فكر، وعلوم دقيقة، وثورات صناعية، وتقنيات مذهلة، سار بنا نحو هذه اللحظة: لحظة التعقيد، والجمود، والاختناق الحضاري، حيث يملك العالم كل شيء، إلا ما يمنحه المعنى.

حين اندلعت الحرب بين إيران وإسرائيل، لم أرَ حدثًا جديداً، بل مشهداً متكررًا: وجوهٌ خائفة، بيانات متشابهة، مواقف دولية رمادية، عالم ينقسم ويصمت، كأنّ كل الدروس التي كُتبت في التاريخ لم تُقرأ، أو قُرئت ومُزّقت.

ما جدوى الدين إن لم يردع القتل؟ وما نفع الفلسفة إن عجزت عن فهم هذا السعار؟ أين دور العلماء إذا أصبحت علومهم تُسخّر لموت الإنسان لا لحياته؟ وأين رجال الدين حين ينسحبون من موقع الشجاعة، أو يسايرون السياسيين طمعاً بحصة لا تليق برسالة؟

الخطابات الدينية في بعض الأماكن باتت صدى لا صوتاً، والضمائر تكلّست خلف المناصب والمصالح. أما الفكر، فاختبأ في برج من العاج، يخاف أن يتّسخ بنار الواقع. لقد أُفرغت اللغة من قوتها، وصار الشرح بديلاً عن الفعل.

أكتب الآن من مقعدي في الصف، بعد أكثر من عشرين عاماً في التعليم. هذه التجربة التي ظننتها رسالة، صارت تراودني بسؤال مؤلم: هل كنّا نعلّم للمعنى، أم للتكرار؟ الطلاب يتعلّمون لا ليكبروا فكراً، بل ليُدرجوا في أنظمة تبحث عن الإنتاج، لا عن الروح. مدارس لا تقصّر، لكنها تسير كما يسير العالم… بلا بوصلة.

أرى أمهاتٍ يُنجبن أبناءً يخسرنهم في حروبٍ لم يخترنها. أتابع التلاميذ وهم يجهدون لتحصيل علامات لا تسألهم عمّا يحلمون. أرى المؤسسات تكمل الدور ذاته: أن تدمج الفرد في قافلة السائرين، لا أن توقظه ليرى الطريق.

نحن في عصرٍ باتت فيه الطائرات تُحلّق بلا طيّار، والسيارات تسير بلا سائق، والحوارات تُدار بلا دفء… لكننا خسرنا ما هو أبسط: دفّة الاتجاه.

لسنا أوّل من يتقاتل. منذ قايين وهابيل، سال الدم على الأرض. لكن، ألا يكفي؟
ألم نتعلّم شيئًا من سقوط الأندلس؟ من احتراق بغداد؟ من قنبلة هيروشيما التي اختزلت فظاعة الذكاء البارد؟
أنجزنا الكثير: تقدم طبّي، تكنولوجيا مذهلة، ثروات هائلة، مدن فائقة السرعة… لكننا لم ننجز الضمير.

صرنا نتحكم بالمادة، ونخسر الروح. نُنفق على التسلّح بالمليارات، فيما أطفال أفريقيا يتضورون جوعًا. نبني جيوشًا أقوى من أفكارنا، ونكتب دساتير تُخالفها أفعالنا. نصرخ باسم الإنسان، ثم نُسقطه من الحساب.

وحين رأيت أطفالًا ينامون في الملاجئ، وأمهات يحملن صور الغائبين، شعرت أن ما نفعله على هذه الأرض لا يليق بالسماء. أنا لا أطلب جنّة، ولا أدّعي أن الشر سيزول، لكنني أؤمن أننا نستطيع أن نُقلّل من جموحه، لو امتلكنا الشجاعة.

أعرف أن إصلاح هذا العالم لا يأتي ببيان، ولا بندوة، ولا حتى بمقال. لكنه يبدأ من شيء صغير ومضيء: قلبٌ بشريّ يرفض العبث. أن نربّي الفكر لا الحقد، أن نستعيد الأخلاق من الكتب إلى السلوك، أن نقول الحقيقة حين تصمت الجموع.

العالم لم يُخلق ليتقاتل.
لكننا، مرارًا، حوّلناه إلى حلبة.
ربما آن الأوان أن نتوقف، أن نعيد طرح السؤال الأول:
لماذا وُجدنا أصلًا؟

والجواب، كما شعرت به في هذه الحرب، لا يُلقى في مؤتمر، ولا يُدوّن في وثيقة.
بل يُربّى في قلب إنسان… لا يزال يحتفظ ببعض النور.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق