نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خطاب الكراهية في زمن النزاعات المسلّحة: حين تصبح الكلمات أدوات قتل جماعي - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 17 يونيو 2025 04:15 مساءً
مازن شّقورة
الممثل الإقليمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
قد علمتنا التجربة، من رواندا إلى ميانمار، ومن البوسنة إلى فلسطين، أن الحروب لا تبدأ دائماً من فوهة البندقية، بل كثيراً ما تُولد من خطاب يزرع الكراهية. لا نتحدث هنا عن مجرد انفعالات أو مشاعر، بل عن خطاب مؤسس على نفي "الآخر" وتجريده من حقه في الوجود، وتحويله إلى عدو وجودي. وعندما يُغلّف هذا الخطاب بالخوف والطائفية والعنصرية ويُكسى بقداسة زائفة، يتحوّل إلى وقود يشعل النزاع، ويُطيل أمده، ويُعمّق مآسيه.
في سياق النزاعات المسلحة، لا يُعد خطاب الكراهية انفعالاً عاطفياً عابراً، بل أداة استراتيجية مُحكمة تُسخَّر لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. من خلاله يُحشد التأييد، وتُبرَّر الجرائم، وتُشرعن الانتهاكات التي تُعد من أبشع الجرائم وفق القانون الدولي.
وقد ناقش مجلس الأمن، في اجتماعه الأخير (2 أيار/مايو 2024)، تصاعد خطاب الكراهية والمعلومات المضللة باعتبارها تهديدات مباشرة للسلم والأمن الدوليين. وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أن "التحريض على الكراهية، متى تُرك دون محاسبة، يؤدي إلى العنف المادي والمجازر الجماعية". هذه ليست مبالغات سياسية، بل حقائق موثقة في سجل الذاكرة الإنسانية.
تكمن خطورة خطاب الكراهية في قدرته على تجريد الآخر من إنسانيته. فعندما يُصوّر اللاجئ أو الصحفي أو المنتمي إلى طائفة مختلفة كتهديد وجودي، يصبح الاعتداء عليه لا مجرد احتمال، بل يُقدَّم كفعل دفاعي مشروع، بل كواجب وطني أو ديني في بعض الأحيان.
وقد وثّقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر كيف يؤدي هذا النوع من الخطاب إلى تعقيد إيصال المساعدات الإنسانية، ويخلق بيئات عدائية أمام عمال الإغاثة، ويُرهب المجتمعات المحلية من التعاون مع المؤسسات الإنسانية، ما يُفاقم حجم الكارثة الإنسانية.
وفي دراسة حديثة نشرتها مجلة Critical Arab-American Studies، تبيّن أن النزاعات المسلحة تُعد بيئات خصبة لانتشار الخطاب العنصري، لأنها تعيد تشكيل الهوية في ثنائية متطرفة: "نحن" في مواجهة "هم"، "الخير" في مواجهة "الشر"، و"البشر" في مواجهة "الوحوش".
ولا يمكن تناول هذه الظاهرة من دون الإشارة إلى دور المنصات الرقمية. فاليوم، لم تعد آلة الكراهية بحاجة إلى محطات إذاعية كما في رواندا. تغريدة واحدة، أو مقطع فيديو، أو "هاشتاغ" منظم، كفيل بتحويل خطاب سام إلى عدوى جماعية تنتشر بلا رقيب.
وقد أظهرت تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تشكل بيئة خصبة لتفشي خطاب الكراهية أثناء النزاعات، بسبب ضعف الرقابة، ووجود خوارزميات تعزز المحتوى الصادم وتضخّمه. الأخطر أن هذه الخوارزميات لا تفرّق بين السخرية والدعوة إلى القتل، ولا بين النقد والتحريض.
في القانون الدولي لحقوق الإنسان، يُعالج خطاب الكراهية بشكل أكثر وضوحاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. يكرّس الإعلان العالمي في مادته 19 الحق في حرية الرأي والتعبير، ويضمن في المادة 7 الحماية من التمييز والدعوة إليه، ما يشير ضمنًا إلى حدود حرية التعبير عندما تُستخدم للتحريض على التمييز أو العنف. أما العهد الدولي، فينصّ في المادة 19 على حماية حرية التعبير، لكنه يُجيز فرض قيود ضرورية احتراماً لحقوق الآخرين أو حمايةً للنظام العام. الأهم أن المادة 20 (الفقرة 2) تنص بوضوح على أن "تُحظر بقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف". وهذا يُظهر أن القانون الدولي لا يسعى إلى تقييد حرية التعبير، بل إلى موازنتها مع حماية المجتمعات من الخطابات المحرِّضة على الكراهية والعنف، خاصة ضد الفئات المستضعفة.
وفي هذا السياق، تشكّل "خطة عمل الرباط" التي أطلقتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عام 2012، مرجعاً دولياً أساسياً في التمييز بين حرية التعبير المشروعة والخطاب الذي يستوجب التجريم قانوناً، وذلك بناءً على اختبار دقيق لمدى خطورة الخطاب، بنيّته، وسياقه، ومحتواه، ومدى انتشاره وتأثيره. وقد أرست الخطة معايير متوازنة تساعد الدول في تطوير أطرها القانونية بما يضمن التصدي الفعّال لخطاب الكراهية دون المساس بحرية التعبير.
كما أطلقت الأمم المتحدة في عام 2019 "استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة بشأن خطاب الكراهية"، والتي دعت جميع الجهات الأممية والدول الأعضاء إلى اتباع نهج وقائي قائم على تعزيز التماسك الاجتماعي، وحماية المجتمعات من التحريض على العنف، إلى جانب التصدي للأسباب الجذرية التي تغذّي الكراهية، بما في ذلك التهميش والتمييز وانعدام العدالة.
أما على مستوى المنطقة العربية، فإن المكتب الإقليمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يولي موضوع خطاب الكراهية أولوية متقدمة في برامجه. فقد قام المكتب بتدريب مئات الصحفيات والصحفيين على تقنيات التغطية الإعلامية الحساسة لحقوق الإنسان، ونظم حلقات نقاش مع الشباب، ومؤسسات إعلامية وأكاديمية حول خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، وساهم في دعم المبادرات الوطنية والإقليمية لتعزيز الخطاب المضاد وتعزيز التعددية والاحترام المتبادل، وذلك بالشراكة مع وكالات أممية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات تربوية وإعلامية.
في أحد لقاءاتي مع شباب من منطقة متأثرة بالنزاع، سألني فتى لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره: "هل حقاً يعتبروننا حيوانات في الطرف الآخر؟". بقيت لحظة صامتاً، إذ لم أجد جواباً فورياً. كيف أشرح له أن خطاب التحريض الذي يُبث على مدار الساعة قد صوّره هو وأهله وأصدقاءه كخطر يجب القضاء عليه؟ كيف أقنعه أن العالم يراه إنساناً كاملاً في الحقوق والكرامة، بينما تصل إليه رسائل إعلامية لا ترى فيه سوى تهديداً يجب استئصاله؟
في هذا السياق، نستذكر ما ورد في تقرير الأمم المتحدة حول الإبادة الجماعية في رواندا عام 1999: "لقد بدأت الإبادة الجماعية في رواندا بكلمات، لا برصاص." كلمات تنزع عن الإنسان إنسانيته، وتفتح الطريق أمام الفظائع.
إن السلام لا يُبنى بإسكات البنادق فقط. فلا مصالحة بلا عدالة، ولا عدالة بلا مساءلة، ولا مساءلة دون مواجهة صريحة وجذرية لخطاب الكراهية. نحن بحاجة إلى آليات قانونية فعالة تضمن المحاسبة، بما في ذلك في ما يتعلّق بالتحريض على الكراهية أياً كان مصدره، حتى لا يفلت مرتكبو هذا الخطاب من العقاب. كما نحتاج إلى شراكات جادّة مع شركات التكنولوجيا لوضع ضوابط صارمة على المحتوى المحرّض على العنف، وإلى تمكين المجتمعات المحلية من إنتاج خطاب بديل يعزّز قيم التعددية والاحترام المتبادل.
إلى جانب ذلك، لا بد من تطوير استراتيجيات إعلامية إنسانية تُركّز على القواسم المشتركة بين الشعوب، وتتجنّب خطاب الاستقطاب والانقسام. وأخيراً، فإن إدماج تعليم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية منذ سن مبكرة يُعدّ خطوة ضرورية لغرس مبادئ التعاون والتعايش، بدلاً من الكراهية والتفرقة. فالكلمة التي تُحرّض اليوم قد تُصبح جريمة غداً، ليس فقط في نظر القانون، بل في ضمير الإنسانية أيضاً.
انتهى
0 تعليق