نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"مهمّة مستحيلة" لكارلو أنشيلوتي: تحويل شِعر الفوتبول البرازيليّ إلى قصيدة - تكنو بلس, اليوم الاثنين 9 يونيو 2025 06:26 مساءً

كارلو أنشيلوتي. (أ ف ب)
عزيزي كارلو،
يحفّزني على مكاتبتكَ أنّكَ تجرّأتَ على ملاقاة المستحيل ومنازلته، بقبولكَ شرف تدريب المنتخب البرازيليّ لكرة القدم، عشيّة مونديال 2026.
في اعتقادي أنّكَ طامحٌ لتكون راعي الفوز بالكأس السادسة، فتنضمّ بذلك إلى جماعة الخالدين الذين انتزعوا ذلك المقام وتلك الرتبة خمس مرّات. وهذا رقمٌ عالميّ لم تحقّقه حتّى تاريخه إلّا كتيبة "السيليساو".
لا بدّ أنّكَ عارفٌ هول هذه المسؤوليّة الملقاة على كاهل عبقريّتكَ، التي توصف بأنّها "مهمّة مستحيلة".
لكن، متى كان المستحيل مستحيلًا في حسابات العباقرة والعشّاق والحالمين؟!
فلندخلْ في صلب الموضوع، وهو هذا المستحيل الذي أقصده وأعنيه: أنْ تضع بصمتكَ على السجلّ، وأنْ تضيف إلى مآثر المنتخب البرازيليّ فوزًا سادسًا في بطولة كأس العالم.
لا يخفى أنّ دون هذا التوق العزيز، فلسفاتٍ وأساليبَ وتدريباتٍ وخططًا ورؤىً وتخييلاتٍ وتصوّراتٍ وافتراضاتٍ ومغامراتٍ ومقامراتٍ وأهوالًا وفخاخًا ومطبّاتٍ وأمزجةٍ وتناقضاتٍ وأهواءً وميولًا ونرجسيّاتٍ وأمراضًا فتّاكةً، ناء بحملها مدرّبون "وطنيّون" سابقون، وينبغي لكَ، أنتَ "الإيطاليّ الغريب"، أنْ تحملها على منكبيكَ، وتتقمّصها وتهضمها وتستوعبها وتمتلك ناصيتها بعد أنْ تمسك بأعنّتها البرازيليّة، فتصير أنتَ إيّاها، وتصير هي أناكَ.
أقلّ من ذلك، سيظلّ المستحيل مستحيلًا. وستعود خالي الوفاض عندما تدقّ الساعة، مؤذنةً بفرار الكأس إلى منتخبٍ آخر استطاع مدرّبه أنْ يستدلّ إلى الطريق المستحيل.
أتعرف الغابة الأمازونيّة، يا كارلو، غرائزها، معجزاتها، متاهاتها المستعصية، وأحلامها اللّامتناهية؟
اللّاعبون البرازيليّون كالغابة الأمازونيّة، في انسجامات تناقضاتها ومواهبها المتشعّبة والمتشابكة.
عباقرة ومرضى، هم اللّاعبون البرازيليّون. وكلٌّ عبقريٌّ مريضٌ على طريقته، وبأسلوبه، ووفق هواه، وفردانيّته، والمزاج.
كلّما طُلِب منهم أنْ يصيروا فريقًا ومنتخبًا، بدا ذلك من شبه المستحيلات والمستحيلات.
هم يعرفون سرّ عبقريّاتهم، وهو مرضهم الفتّاك، وعطبهم المميت.
يعرفون كم يصعب أنْ تتهجّن الطرق والأساليب والأهواء والفردانيّات والأمزجة، لتصير سلسةً مرنةً متعاضدةً ومتكاتفةً كعائلة، وتصير طيّعةً كخاتمٍ في خنصر.
كم يصعب أنْ يندرج ذلك كلّه في رؤيةٍ واحدةٍ، في إناءٍ واحد، في بنيةٍ، في بناءٍ، في فريقٍ هو المنتخب المجتمِع على عبقريّات تآلفاته وتناقضاته بتنافراتها وذاتيّاتها.
عندما ينفكّ كلٌّ من هؤلا اللّاعبين عن برازيليّته المحلّيّة، باحثًا عن حظّه ومستقبله تحت شمس العالم، وفي عداد فرقها، ترى الواحد منهم ينصاع إلى حدٍّ معلومٍ، هو الحدّ المبتغى، فينخرط ويتكيّف ويتناغم ويتموسق في سياقٍ أوركستراليٍّ مهيب، مندمجًا في روح الجماعة، متفاعلًا معها، بحيث يحرز في عالم الأندية ما عجز عنه الاتّحاد البرازيليّ لكرة القدم، ومنتخبه الوطنيّ، بعد العام 2002.
عليكَ، يا كارلو، يا انشيلوتي، أنْ تستجلي سريرة كلٍّ من هؤلاء. أنْ تتسلّل إلى نخاعهم الشوكيّ، إلى نسغهم، إلى نسيجهم اللّاواعي، حركاتهم، إيقاعاتهم، انفعالاتهم، إلى الغرائز، والمواهب، والحدوس، والاحتمالات، وما لا يُتوقَّع من أفعالٍ وردود أفعال.
فمتى تَحَصَّل ذلكَ، أو بعضٌ منه، سترى، بعد جهدٍ جهيد، كيف ينبغي لكَ أنْ "ترى" (من رؤيا)، فتشبك، وتنسج، وتخيط، وترخي، وتشدّ، وتقدّم، وتؤخّر؛ متبصّرًا في أحوال الأقدام والرؤوس والعيون وبواطن الأجسام والنفوس، متبحّرًا في هواجسها وأحلامها ومكبوتاتها، قابضًا على خيوطها وأنسجتها "العائليّة" المتضامنة، مسلّطًا البوصلة صوب المنارة التي ستهدي الفرديّات الحيرى إلى كيفيّات الوصول الجماعيّ الى المرمى.
فازت البرازيل خمس مرّات بالبطولة. كانت الأخيرة في العام 2002 (على يد المدرّب لويس فيليبي سكولاري)، وقبله في 1994 (المدرّب كارلوس ألبرتو بيريرا)، 1970 (المدرّب ماريو زاغالو)، 1962 (المدرّب أيموري موريرا)، و1958 (المدرّب فيسنتي فيولا).
لكنْ، منذ ثلاثة وعشرين عامًا لم تعد البرازيل هي البرازيل، ولا الغابة الأمازونيّة هي الغابة الأمازونيّة، ولا المنتخب هو المنتخب، ولا المعجزة هي المعجزة.
لقد دخل شيءٌ ما على خطّ اللعب والملعب واللعبة واللّاعبين، وخربط الإيقاع، وأفقد البرازيل سرّ تكرار اجتراح "المهمّة المستحيلة".
تغيّرت منذ ذلك الحين فلسفاتٌ وخططٌ ومعاييرُ ومقارباتٌ ومفاهيمُ، لم يتمكّن لاعبو البرازيل، ولا فرقها المحلّيّة، ولا مدرّبوها وحكماؤها، من استيعابها، والاستيلاء عليها، وإدراجها في صلب النخاع الشوكيّ للمنتخب.
أهي لعنة؟ أهي العبقريّة لم تعد عبقريّةً؟ أهي الموهبة لم تعرف أنْ تصير رؤيةً وتقنيةً وأسلوبَ لعب؟ أهي مأساة اللّاعبين، أم مأساة المدرّبين، أم المأساتان معًا؟
إذا كان من هدفٍ ترتجيه، يا كارلو، يا أنشيلوتي، فهو أنْ تنجح حيث فشل المدرّبون البرازيليّون في استخلاص عبقريّات اللّاعبين، وتنظيم مواهبهم، وتهذيبها، و"عقلنتها". ولِمَ لا "برمجتها"!
هذا يتطلّب منكَ أنْ تستوعب بنفسكَ المتغيّرات (لكَ في ذلك باعٌ طويلٌ طويل)، وأنْ تتعرّف إلى بداهات اللّاعبين فردًا فردًا، وأنْ تنصت إلى غرائزهم، وخلجات أقدامهم، وإيقاعات أجسامهم، وإماطة اللثام عن سرّ كلٍّ منهم، عن خصوصيّته، وأنْ تجعل من ذلك كلّه منتخبًا.
ولا بدّ، آنذاك، من أنْ تنجح في امتحان تحويل العبقريّات الفرديّة إلى مواهبَ وتقنياتٍ تنحلّ وتسيل في جسم المنتخب ككلّ، وفي أوعيته الدمويّة الجماعيّة.
لا بدّ من ترويض هذه الخيول البرّيّة الجامحة التي تُهَوشل في مجاهل الغابة الأمازونيّة.
تَصَوّرْ أنّكَ يجب أنْ تحوّل الغابة إلى ملعب، والخيول العصيّة على الترويض إلى خيولٍٍ مدركة أنّها ستظلّ تصهل وتحمحم وتتبارى، لكنْ داخل مستطيلٍ أخضر.
جسِّدْ فقط تحويل موهبة البداهة الفائقة في اللعب، وعبقريّة الغريزة، إلى صناعةٍ محنّكة.
وها هنا يتحدّاكَ الخلود، يا كارلو أنشيلوتي. وعليكَ، بعدما قبلتَ تحدّي الخلود هذا، أنْ تفوز به.
"مهمّة مستحيلة"؟ نعم. وهي مسألةٌ شعريّةٌ بامتياز.
كمعجزة تحويل الشعر المتشلّق الهاشل الأهوَج إلى قصيدة!
0 تعليق