نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الوجه الآخر لرولان بارت: الكاتب حسَبَ الطلب - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 10:08 صباحاً
يمسك القارئ الكتاب يبن يديه بعد أن اقتناه، ولنفرض أُهدي إليه، ويشرع في قراءته، باعتباره مادةً جاهزةً وكاملة، يعنيه محتواها أو شكلها، ولا يطرح أيّ أسئلة مسبقة، بل قد لا تخطر بباله، من قبيل المراحل التي مرّ بها هذا المنتج، إعدادًا، وتأليفًا وطباعةً وتسويقًًا إلخ. يدخل بعض هذه العناصر في باب ما يمكن تسميتها "أسباب النزول" تعني الكاتب بالدرجة الأولى، وتحضُر في خلفية مسلسل إنجاز الكتابة، عند محترفيها، خصوصاً، وأحيانًا لدى المبتدئين.
أسطّر هذه الكلمات الأولى، مدخلًا للاطلاع على حالة وقضية لطيفة خصّص لها البروفسور أنطوان كومبانيون، الأستاذ المتقاعد من الكوليج دو فرانس، وعضو الأكاديمية الفرنسية، كتابًا طريفًا في نوعه، يجمع بين المنزع البيوغرافي، والبحث في توثيق المنشأ الأدبي، يدخل في إطار التراجم العامة للكتاب، عُني بها تراثنا العربي وتقاعسنا عنها في حاضرنا إلا نادرًا. بما أن الموضوع يخصّ الدارس الأدبي رولان بارت (1915 - 1980) من رواد البنيوية والسيميائيات، أحدث انقلابًا مع مجايليه في مفهوم الأدب ودراسة النص وتحليله. منذ رحيله المفاجئ الفاجع، لم ينقطع البحث في سيرته، وشرح أعماله، ونشر المتأخّر منها، ليتبين أنه، وهو منخرط في تيار تجديدي جذري في مناهج العلوم الإنسانية مع نهاية الخمسينات وبلغ شأوه في مطلع الثمانينات، استطاع أن يتفرّد مدرسةً وحدَه، ويصبح قبلةَ الغرب والشرق.
في المغرب خصوصاً، حيث سبق له أن قضى عامًا أستاذًا في كلية الآداب بالرباط، من دون تأثير يُذكر، سيعرف ابتداءً من الثمانينات الصَّيت الأوسعَ، وتغدو أبحاثُه إنجيلَ تعلّم الدرس السيميائي وقاموسه لينتقل استقبالًا إلى المشرق، للأسف، بشروح شائهة وترجمات معطوبة، وليتمتع بما يشبه القداسة. فكل من تهجّى نصًّا نقديًا حديثًا تلعثم اسمه بين شفتيه بيقين العارف. وهذا كثيرُ علاقتنا بمتون الحداثة الغربية وأعلامها، أصحابُها في وادٍ ونحن رجعُ الصدى وقشور. هؤلاء درسوا ويعملون وفق نُظُم وخطط في البحث والتأليف من زمانهم ووعي بما يفعلون، هذا أول ما سعى أنطوان كومبانيون، وهو من مجدّدي الدرس الأدبي المعاصر في فرنسا، الى أن نقرأ معه صفحات من السيرة العملية لبارت، كيف بدأ، ومساره في التأليف ليكون من نعلم. وهو ما قدمه بنبش واستقصاء في كتابه "Déshonorer le contrat-Roland Barthes et la commande" (غاليمار، 2025) نترجمه كالآتي: "نكث العقد ـ رولان بارت والطلب".
في محاضراته الأخيرة بالكوليج دو فرانس (بين 1979 و1980) عن" إعداد الرواية"، قدم بارت مخططًا لبرنامج عمله اليومي: 5 ساعات للعمل الخلاق، وخمس للتدبير، وجده مرهِقًا، من هنا تطلع إلى حياة يتخلص فيها من الكُلَف، أي مما يثقل عليه من الطلبات ويشكو منه كثيرًا. باعترافه، باستثناء نص واحد (سنة 1946) جميع أعماله كتبها بناءً على طلب (commande). ينسحب هذا على العناوين الكبرى التي صنعت اسمه وصولًا إلى(S/Z) و"إمبراطورية العلامات". ظل يشكو طوال حياته من هذا النهج، وفي الوقت هذه طريقته المحفّزة، تكيّف معها وتناقض، فرضت عليه نظام العمل الوظيفي بما انها مهمةٌ ينبغي إنجازُها، وإذا اعتبر الكتابة سحرًا فهي أيضًا (مهنة) لها إلزاماتها، رغم أنه تنقل بين العروض (demande) وبين الطلب.
غلاف كتاب البروفسور أنطوان كومبانيون.
هل سيفهم هذا من يُفرّخون النصوص بلا حوافز حقيقية، وبما يصنع تضخمًا لا لزوم له؟ سؤال مزعج، فبارت نفسُه لم يكن يرتاح للوجود في وضع الناسخ والنّسخ (écrivance) عوض "الكتابة" بمعناها المطلق الخلاق، اضطر إلى منزلة بين المنزلتين كي يلبي الطلب. ترعرعت الطريقة البارتية التي اشترك معه فيها مفكرون من زمنه (كلود ليفي ستراوش، مثلًا) أولًا في"نادي أفضل كتاب" (الذي خلف النادي الفرنسي للكتاب) من تأسيس دارَيْ غاليمار وهاشيت، كان يصدر نشرة شهرية إشهارية عن الكتب، انتعشت في الخمسينات، انتقلت إلى فرنسا من نيويورك (1926) ومن سويسرا (1935) ساهم فيهما بارت بانتظام، من أشهرها تعليقات عن " الغريب" و"الطاعون" لكامو وذلك سنة 1955 بعد أن صدرا عن النادي وشهد جدالًا نقديًا بمرجعية أخلاقية وإيديولوجية.
بيد أن أهم معركة سُجّلت في السيرة الأدبية لبارت حدثت بسبب المقدمات التي وضعها لتراجيديات راسين ونشرت في النادي الفرنسي للكتاب سنة 1960، أثارت حفيظة ريمون بيكار المتخصص في راسين، وستتحول إلى معركة نقدية حامية بينهما (1965 - 1966) عبّرت في العمق عن مواجهة بين المدرسة النقدية الأكاديمية للحوليات في السوربون، والتيار البنيوي السيميائي الناشئ، تحامل فيها بيكار بقوة دفاعًا عن قلعة بدأت تتهاوى تحت منجنيق التحديث. تمحيص كومبانيون قاده إلى أن بارت لم يكن متحمِسًا لراسين أصلًا، وأن مقدماتِه وضعها تلبيةً لعرض تعويضًا عن آخر لم يف به (تقديم لكتاب شاتو بريان). بما يطلعنا على مزيد من المشاريع التي ساهم فيها بارت بأوراق نقدية تحت الطلب دائمًا أغفلها لاحقًا عدا مقالة تعتبر مؤسسة رافقت طبعة أول رواية لألان روب غرييه عرّاب الرواية الجديدة: "المماحي" 1953 ونشرتها مجلة "نقد" بعنوان "الأدب الشيئي" ضمّها بارت إلى كتابه "أبحاث نقدية" (1964). هي وغيرُها في "موسوعة أونيفرساليس" حين نضب المعين المالي لنادي الكتاب، مع نصوص أخرى كتبها اضطرارًا للكسب ليمول بها اعتكافه على تعلم دراسات جديدة في علم النفس.
سنوات بعد هذا حين التحق بارت بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية (1962)، وأصبح اسمًا لامعًا في زمرة ما بعد البنيويين والسيميائيين، من جماعة" تيل كيل" بالذات، وعُيِّن أستاذًا بالكوليج دوفرانس (1975)؛ خلال هذا وعقبه لم يتوقف عن الكتابة وفق الطلب، وإن بحرصٍ أدقّ، ولإرضاء أصدقاء يلتمسون منه مقدماتٍ لكتبهم، ودورِ نشر ومنابرَ تعرض وتطلب بإلحاح ليمكن القول إن كل ما أنتجه في هذه الفترة أو نشر هو ثمرة الطلب أو سبق نشرُه منجّمًا، والباقي مما طُبع بعد رحيله. لكن، ماذا عنى كومبانيون بخيانة بارت للعقد، أو عدم تشريفه لالتزامه به؟ طوال صحبته لتخلّق النصوص البارتية، ومعرفته الشخصية بصاحبها، نراه يتردد في تعيين النكث ووصفه بدقة، وعلينا أن نستنتج بأنه العمل الذي ينجزه بارت يحتفظ فيه بموقعه الخاص بين القارئ والطرف المتعاقد معه، لا يلبي طلبه إلا جزئيّا ويقدم للقارئ ما لا يتوقعه. المسألة في النهاية رهن بمهنية باحث ومنهجية كاتب في تنظيم عمله وإنجازه، وهو وسواس حادّ صنع شخصية بارت في قلب محيط ومرحلة كانت تغلي بتبلور مناهج وتيارات حداثية برواد مجددين في كل شيء، لا مكان للهواية في عملهم، بارت المعلم السيميائي عملاقٌ بينهم، وكتاب البروفيسور كومبانيون كسائر أبحاثه مرآةٌ عن حقبة جذرية في تجديد الدرس الأدبي.
0 تعليق