نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تتفكك سلسلة إنتاج المعرفة... فتنهار الأمم! - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 06:30 صباحاً
الدكتورة هيلد نرش*
"التعليم أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم". هكذا تكلم نيلسون مانديلا في تطوير الأوطان ونهضتها. وهو لم يأتِ من عبث، وربما يكون الأجدر بالحديث في هذه المسألة، إذ كان على عاتقه أن يُعيد تشكيل أمة بكاملها.
لكن، على أي وطن تحديداً تكلم مانديلا أو نتكلم نحن؟ أنتكلم عن وطن تهجره العقول أم وطن يحتضنها؟
في الواقع، لا تقتصر تداعيات هجرة العقول الأكاديمية على الدولة الأم وحدها، إنما تتعداها لتُحدث تغييرات عميقة على مستوى مانح المعرفة وطالب المعرفة على حد سواء. فالمانح الأستاذ في الدول النامية يبذل قصارى جهده لتأدية رسالة تربوية رغم محدودية الإمكانيات، وضعف التجهيزات، وغياب الدعم البحثي. لكن ضغوط الواقع المعيشي تدفعه في كثير من الأحيان إلى الهجرة نحو بيئة أكثر استقراراً وتطوراً.
من هنا، أي من الخروج من البلد، يبدأ التغيير: يجد مانح المعرفة نفسه مطالباً بالتأقلم مع ثقافة أكاديمية جديدة، ومناهج مختلفة، وتكنولوجيا تعليمية متقدمة تُواكب تطورات الذكاء الاصطناعي وعصر الرقمنة، فيسعى إلى تطوير مهاراته، وتحديث أساليبه، متخلياً تدريجياً عن ممارسات اعتادها في بلده الأم. هذا التحدّي يولّد فرصاً إيجابية، مثل الانخراط أكثر في البحث العلمي، والتفاعل مع بيئات متعددة الثقافات، والمساهمة في تطوير محتوى أكاديمي حديث، بدلاً من الانشغال في البحث عن مورد للعيش حين ينقطع التمويل، الشحيح أصلاً، أو بدلاً من كبت "مشاعره" البحثية في بيئات لا تقدّر العلم، وتعدّ التطوّر منافياً لما تؤمن به أغلبية المجتمع.
لكن، على الرغم من جزالة هذه المكاسب الشخصية، تبقى الخسائر المعنوية كبيرة، ومنها انقطاع روابط التواصل مع زملاء درج الأكاديمي على التفاعل العلمي معهم، مع كل ما يتيحه هذا التفاعل من مساحات علمية ثرية، إضافة إلى صعوبة استمرار منحه طلابه في الوطن الأم تعليماً عن بعد، نتيجة فجوة معرفية بين بيئتين أكاديميتين مختلفتين تماماً، فلا تتوافق المناهج ولا المعايير بين النظامين، مما يصعّب عملية التغيير التربوي من الخارج، ويُضعف قدرة طالب المعرفة على الاستيعاب. وهكذا، تتفكك سلسلة إنتاج المعرفة وتوريدها، من مانح إلى متلقٍ، فتنهار أمم.
الأمثلة كثيرة، وأنا اللبنانية مثال على حيّ على مرارة الهجرة. لكن، لكل مثال وطأته الخاصة: إن خرجت، ومع كثيرين، من لبنان، فالأثر العالمي أخفّ وطأة من عشرات آلاف العقول التي تغادر أميركا اليوم؛ فبعدما كانت الولايات المتحدة مصدّرة للمعرفة نفسها، تتحوّل اليوم إلى دولة مصدّرة لأداة إنتاج المعرفة، فأيّ أمل بعد لنا، نحن معشر الأكاديميين، في مرجعية علمية مركونة على الضفة الأخرى من الأطلسي، إذ تفقد أهم مكوناتها: الكادر البشري العالم الباحث؟
إنها خسارة أكاديمية ما بعدها خسارة.
*أكاديمية تربوية لبنانية مقيمة في دبي
0 تعليق