في حديث الشعر (10) - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في حديث الشعر (10) - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025 07:13 مساءً

أَعود إِلى حديث الشعر في هذه الحلقة العاشرة، بعد انقطاعي عنه سحابةَ أَسابيعَ، عالجتُ خلالها مواضيعَ ثقافيةً عامة.
أَعود إِليه فأُواصل بحثي في الجوهر، في الأَصل، في كيفية المقاربة التي تجعل من الشعر شعرًا، لا في الاستهانة بالتسمية لتمرير نصوص هي من النثْر في أَدناه، ولا يمكن أَبدًا أَن تكون في مقدس الشعر.

لَم أَتبسَّطْ يومًا إلَّا في الأُصول، وأَشَحْتُ عن الدخول في مُمارساتٍ طفيلية، لإِيماني أَنْ هذه هي الهوية، فَلْنَعْتَنِقْها، لأَنَّ كلَّ ما عداها تَشَرْذُمٌ، وكلُّ تشرذُمٍ ضياع.
لنكنْ مع القواعد، مع الأُصول، مع الثوابت، مع القِيَم، ولنجدِّدْ من داخل طواعية الأُصول، وما أَوسع مداها واستقبالها كل جديد بترحاب، فتزداد الأُصول نضارةً وتَغْنَى بنا الثوابت.

اقتناص اللؤْلؤ لا الزبد
لِماذا لا نغوصُ على اللؤْلؤ في شعرنا، لنصوغَ منه قصائد جديدة، عوضَ هدْر الوقت (والعُمْر) في التلَهّي بالزبد الزائل؟
الخوارج على الأُصول والثوابت والحقيقة، فَلْيَشْرُدوا ما وسِعَت لَهُمُ الْمنابِر وصفحات الصحف وشاشات التواصل الإِلكترونية. سينتهون مغلَّلين بالفوضى والضياع. وحده التاريخُ يصفّي أَبناء الأَصالة، لأنه وحده مَصهر الحقيقة. والحقيقةُ هي في اتِّباع الأُصول والتجديد من داخلها، وهي التي تُحرّر من جَميع الأَغلال.
الغَيْمُ القاتِمُ يَحجُبُ الشمس ولا يُلْغيها، لأَنه عابِر.
مصابيحُ الكهرباء تنير بعضَ الليل ولا تَجعله نَهارًا، لأَنَّها مُوَقَّتة.
ولا بدَّ للفجر من أَن يطلعَ كلَّ يوم، وأَن تُشْرقَ الشمسُ كلَّ يوم فتنطفِئَ جميع الأَنوار، ويبقى وحدَهُ نورُها لا ينطفئ ولا يَشيخ.

 

قوافل الزمان: إِيجاز قصيدة البيتين

 

لِمن نكتب الشعر؟
أَكتُبُ هذا الكلام، لا لِجيلي من الشعراء (وأَنا لستُ، شِعْرِيًا، في صفوف الكثيرين منهم)، ولا للجيل المتأَثِّر بِجيلي أَو بالجيل الذي سبقَنا.
أكتُبُ هذا الكلام لأَجيالٍ آتيةٍ ستقرأُه، وتكونُ أَدرَكَت فتقول: "هذا كلامٌ ظَلَّ مؤْمنًا باللؤْلؤ، في عصرٍ طَفَر زبَدُهُ حتى ضلَّل. لكنَّ الطفْرة الكثيرة تبهَر المضلَّلين، ولا تضلِّلُ من آمنوا بالقِيَم والجذور".
من هنا أَن جميع قصائدي تَحمِلُ إيمانِي بالقِيَم والجُذور، ومُحاولَتِي التجديدَ من داخل الأُصول. وهو هذا، منذ مطالعي، إيماني بالشعر. هكذا وَعَيْتُه، هكذا أَفهمُه، وهكذا سأَكتُبُه دائِمًا: أَناقةَ بثٍّ، نَضارةَ تعبيْرٍ، وجَمالَ رؤْية.
إِذا أَخذَ البعضُ عليَّ انصرافي إِلى الإِثبات الشعريّ، فلأَنَّ الإِيمانَ ليس هوايةً لَها وقتٌ بعد الوقت، بل هو انصرافٌ تامٌّ ومُمارسةٌ مستمرّة في كلّ لَحظة.
وإِذا أَخذ البعضُ عليَّ تأَنُّقي في التعبير، فلأَنني أَربأُ أن أَكتُبَ في الحُبِّ شِعرًا لا يليق بأَناقَةِ المرأَةِ وجَمالِها. ليسَ مَنْ على موعد للقاء حبيبته، ويأْتيها بثيابٍ عتيقةٍ مهمَلة. ولا العاشقُ يرضى مَجيْءَ حبيبته إِلى موعدهِما، وجَمالُها إِلى إِهمال.
الحب عالَمٌ كاملٌ مكتملٌ، لا يرضى نواقصَ وهفوات. 

 

الياس أَبو شبكة: طليعة التجديد في الأَوزان

الياس أَبو شبكة: طليعة التجديد في الأَوزان

 

براعة الإِيجاز المعبِّر
وهكذا الشعر: إِنه غَوصٌ على التصوير (ليليقَ بالشعر) وتَأَنُّقٌ في التعبير (ليليقَ بالحُبّ) وتَجربةٌ في الإِيجاز (لِتَجَنُّب الثرثرة في الشعور)، فتجيْءُ القصيدةُ إِيقاعًا مكتنزًا، يومضُ بِكرًا، يتغلغل برقًا في الرعشة، مسافةَ هُنَيهةِ قُبلة، شهقةَ "أُحِبُّك"، أُنشوجة جنون، تلويحةَ يد، رفةَ هدبٍ يتنهَّد، وخفقةَ صدرٍ عاشق.
والقصيدةُ الكلاسيكيةُ التركيب، العموديةُ الكتابة العَروضية (بُحورًا، أَوزانًا، تفعيلاتٍ، قوافِي،...) يمكن نشْرها تشكيليًّا بِما يَجعلها تتنفَّس أَكثر، من دون أَن تَخون العمود الشعري، فلا تَتَحَنَّطُ في الشكل التقليدي: صدرًا وعجُزًا. فهي كيفما كُتِبَت، بالعودة إِلى السطر مرارًا ضمن البيت الواحد، وتبقى كلاسيكية الأَصل في حداثة الكتابة.

 

نزار قباني: جدَّد من قلب الكلاسيكية

نزار قباني: جدَّد من قلب الكلاسيكية

 

الكلاسيكية: طواعية عجيبة
هذا لأَقول إِنَّ الكلاسيكيةَ نَضِرةٌ مطواعةٌ غيْر مُتْحَفِيَّة، تُجاري كلَّ عصرٍ فتلبَس أَزياء مناخه من دون أَن تَخون جسدها الأَصيل. 
هكذا، في عصر حداثةٍ مُتخبّطةٍ بين أَصيلٍ ومُستورَدٍ وضائعِ الهويّة، تَجيء القصيدة الكلاسيكية متطوّرةً مع العصر، "حديثة" النضارة، متمسِّكةً بِقِيَم الهيكل، ومُتجدِّدَة في خشْعة الصلاة.
المجد للشعر.
والمجد دائمًا للشعراء أَبناءِ الأُصول وقيَمها.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق