شهوة لبنانية متهوّرة لبطولات وهمية غير محتسبة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
شهوة لبنانية متهوّرة لبطولات وهمية غير محتسبة - تكنو بلس, اليوم الجمعة 16 مايو 2025 04:13 صباحاً

منال عبد الأحد

كنت أكتب لأوجّه رسائلي لآخرين، أعترف. ظننت لوقت ليس بقصير أنني صحافية "فريلانسر" شبه ناجحة وهذا أحسست به عام 2009، كنت أكتب تغطيات، فخورة بها حتى اليوم لأن بعضها أنصف قضايا إنسانية محقة بغض النظر عن انتماء إثني أو بعد جغرافي، وكانت تحظى بمساحة جيدة في جريدة عريقة (علماً بأنني شخصياً بتّ أنحاز إلى حيّز أقل من تصنيفات من هذا القبيل، وهذا أمر خاص)، مع الوقت انصرفت، عام 2018، كلياً عن أي نشاط كتابي منشور، كانت مشاركاتي أصلًا متقطعة، حتى لا أنسب لنفسي إنجازات زائفة، وقررت أن أعتكف "الثرثرة" كوني غضبت من كل شيء ورحلت عن بيروت (الواضح لمن يعرفني أن بيروت أزمة مفصلية في حياتي). فأنا لم أمتهن الصحافة أصلًا بسبب قلة الفرص فيها بدون حظ وفير أو تدخّل "المعارف" وحتى كلاهما أحياناً، وبالنظر إلى الواقع المختلف تماماً عن الحياة الوردية مما يحتاج إلى مهارة تدوير زوايا كنت أكثر سذاجة من أن أمتلكها وقتذاك، هذا دون أن أنسى أن أهلي، وهما في الواقع المرجعية الأولى لأي فتاة غارقة في شرقيتها ومتخرّجة حديثاً، بدا لي أن لديهما مشكلة ما مع طلب شيء من أحد، على ما استنتجتُ أو أحببتُ أن أفعل وقتذاك.

 

في المحصلة، قررتُ أن أعمل في مجالات إبداعية أخرى، وفخورة بخوض غمارها وبما أنجزته فيها حتى الآن، وذلك كخيار بديل، لأن لغتي جيدة ومخيلتي رحبة، على ما يُقال لي. وأود أن أشير هنا إلى أن فكرة الاستقلالية المالية، حصراً، والمطلقة والتامة والكاملة كانت دائماً أولوية في حياتي، منذ الصغر، وقد خططت لها بعناية لسبب لا أعرفه حتى اليوم.

 

لا أقصد أن أخبر قصة حياتي كلبنانية، وهي للمناسبة عادية جداً وقد لا تهمني أنا حتى، بل أبتغي الإحاطة بجوانب تؤثر على أي متخرّج حديث يخطط لحلم يجبره لبنانه (لأن والحال هذه لكل منا طرق عيشه الخاصة في لبناننا، للأسف) على استئصاله لسبب ما خارج عن سيطرته، وهذا قاتل للعلم، إذ إنه من حق أي شخص كان أن يحلم بما يريده أو يحاول أقله، علماً بأن المحاولة في لبنان مخاض عسير قد لا يمتلك البعض ترف الوقت الذي يستغرقه. صراحة، أخيراً شعرت بنوع من التوهان في بيروت، بسبب ضغوطات ناجمة عن ظروف الحياة اليومية والشخصية، عموماً، وقررت أن أبدأ بكتابة أفكار تراودني لأنظّم أو أبني منطقاً ما في ذهني، وهذا نص في هذا السياق، أردت نشره منذ كتبت العنوان، مع أنني عدّلت في سياقه الكثير، ولا أعرف ما المقصود منه إنما على الأرجح مراجعة الذات في بعض الأفكار، وهذا أمر شخصي، ومشاركة هواجس أخرى أيقنتُ أنها قد تكون عامة، إلى حدٍّ ما.

 

 لاحظت أننا في بيروت العابسة غالباً في وجوهنا، ونظراً للعرقلات اليومية الجمة التي نواجهها ما إن نخرج لنستهلّ يوماً متفائلًا جدًّا قد بدأناه بسماع موسيقى هادئة أو حتى بقراءة نص جميل، إلا أن المزاج البيروتي الشاحن عكّر صفوه، نعتاد على التخلي عن جمالية ما في الغالب، علماً بأننا قد ننجح في أن نجعلها تتسلل خلسة إلى يومياتنا إن حالفنا الحظ وتحلّينا بشيء من الإصرار والصبر. هذا يعني أن من عاش خارج بيروت وعاد إليها، بشكل خاص أظن، يجد صعوبة في أن يحيا على سجيته في البداية وبالتالي يشعر بأنه إلى حد ما تائه عن نفسه. وهنا أكتب لأقول، صدّقوني، إن هذا أمر مرحلي، أي سيمكن تجاوزه بمجرد السماح للمدينة في أن تدخل نبضها إلى ذواتكم من جديد، فقبل أن تحزموا الحقائب أو بانتظار ذلك أقترح، فقط أقترح وبفعل التجربة، منح المدينة فرصة أخيرة لترسّخ حضورها في ذواتكم، وقد تبدّلون مسيرتكم معها، أو تحتفظون ريثما تغادرون بحقكم الجوهري في اختبار السعادة في أرضكم الأم، ما يغيّر بدوره في علاقتكم مع مدينة لا شك تحتفظون بودّ ما لشوارعها أو أناسها أو كليهما، وذلك ليس مجرد تفاؤل، بل انطلاقاً من أن لا تجربة سيئة بالكامل أو جيدة بالمطلق.

 

أكتب ذلك، وأنا شخصياً أنظر بجدية في خيارات بديلة، إلا أنها قد تكون ثالث مرة أحسم أمري فيها لأتراجع وأعود وأضيع كعائدة من جديد، وهذا يشعرني بخوف وتردد لا أنكرهما البتة. لذا بتّ أعمل على تدوير الزوايا مع نفسي، يبدو أنني مع الوقت طوّرت مهارة في ذلك، لأنني أحاول أن أقنع نفسي  بألّا حياة وردية منذ زمن بعيد لا أذكر متى بدأ حتى. ولذلك قررتُ وبكل صراحة أن أجرب حظي مع وطني وبدا لي ذلك ممتعاً وغريباً في آن.

 

انطلاقاً من ذلك، عزمت على أن أختبر الحياة اليومية بتفاصيلها والتوقف عن إقصاء نفسي، مع أنني وللمفارقة، عندما كنتُ خارج بيروت عشتُ فيها معنوياً أكثر بكثير، بمعنى أنني رحتُ أتحيّن الفرص، وبصورة أسبوعية أحياناً، لمدة ليست بقصيرة من حياتي، كي أرسل مقالات للصحيفة اللبنانية التي ذكرتها، وقد بدا لي من اهتمام فريق عملها كما ومن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أقبلتُ أنا عليها بنهم وقتذاك ، بأنها كانت تحظى بحيّز ليس بسيئ من القراءة.  

 

مؤخرًا، شعرتُ أنه وفي ارتطاماتي المتكررة على مدى سنوات العودتين، حتى الآن، مع الواقع البيروتي أُربكتُ كثيراً، ومن هنا شعرتُ بمسؤوليتي الكاملة عما حدث، حتى في تلك الارتطامات القديمة والسابقة، لأنني أقنعتُ نفسي بأنني المذنبة كوني أصرّ على أن أعيش بذهنية مختلفة. وأمسكت سوطاً اسمه الواقع بدأت أجلد فيه حماقاتي أو ارتكاباتي المعنوية للتنبيه، وها أنذا أقع بفخ المثالية من جديد، يبدو أن هذه الأخيرة قدر ليس إلا. وعوضاً عن أن أقرّ بأخطائي وأعتذر عنها كأي كائن بشري آخر وأسامح نفسي عليها، قلّبت صفحات الماضي، وكأنني كنت في قرارة نفسي أبحث عمن أجد معهم رابطاً ما ولو بسيطاً، على تنوّع تلك الروابط. بدأت من دائرة أصغر اتّسعت شيئاً فشيئاً، ورحت كلما اصطدمت بحائط عوضاً عن أن أعيد قراءة قراري هذا أتّجه لأجرب حظي الآخر فاصطدم بحائط أكبر من جديد.

 

جربتُ حظّي ثلاث مرات، كنتُ قد بررتُ فيها للآخرين ردود أفعالهم وألقيتُ اللوم برمته على نفسي، ولم تكن لدي سيناريوات إضافية ذات أثر يُذكر حاضرة في ذهني وقتذاك آلمتني على امتداد مدد لا يستهان بها، منها ما حدث لي بعد عودتي الأولى، ومنها ما حدث عقب عودتي الأخيرة، ولكنني عزمت على التقليب بتؤدة مرتين من جديد، وبتؤدة، لأنني في الغالب أمينة ودقيقة في فنون "البحبشة" و"النكش" وبعثرة مشاعري كي أنصف حضور آخرين لم يكونوا أصلاً حاضرين إلا في أوهامي الخاصة. ولن أخوض هنا في طبيعة هذه السيناريوات التي قد لا تهم أحداً، حتى أنا من الآن فصاعداً، آمل ذلك، وانتهى بي الأمر إلى الفشل في الحدوث على رد عقب خطاب اعتذار رجمتُ فيه نفسي، بكل ما للكلمة من معنى، وفي رسائل متتالية، يا "للهبل"، ورد آخر متعجرف في سطرين ليس إلا، فرحت به لفرط سذاجتي حتى وقت قصير، ورد أكثر شراسة أمطرني بكيل من الاتهامات والشتائم وانتهى بي الأمر تائهة بالكامل.

 

اليوم أفقت قرابة الرابعة صباحاً لأقلّب في دفتر عقوباتي، فوجدتُ وبكل أمانة، بعد مراجعة ضميري "الصاحي" إلى حدّ قدرتي البشرية على فعل ذلك طبعاً، بأنني مسؤولة عن إخفاقاتي أو حماقاتي أو ارتكاباتي المعنوية حتى وفقط، وأن ردود الأفعال تخصّهم وحدهم وهي ناجمة عن تكوين طبيعتهم البشرية وتراكم تجاربهم الخاصة وموروثهم الشعوري، إذ قالت لي صديقة البارحة مستهزئة، وفي قالب واضح من السخرية، إن أغضبتِني وقتلتك فأنا بنظر القانون والأعراف الإنسانية قاتلة. وهنا، وفي سياق ربط ما قالته بأفكار جديدة، استرجعت مقولتين "شعب يُشترى... كما تكونون يولّى عليكم" كنت أجدهما منطقيّتين، إلا أنني عثرتُ فيهما خلال الكتابة، أي للتو، على تغاضٍ كبير عن مسؤولية يتحمّلها بصورة أكبر مرتكبون مربكون على مصالحهم يسرحون ويمرحون، أفقروا الشعب وعزّزوا حاجته للاستسلام وطوّروا لديه مهارة التلهّي بلوم آخرين منه على خنوعهم، بدلًا من الانصراف إلى تفتيت ذلك الخنوع. تذكّرتُ في نفسي أنني عندما خسرتُ مدخراتي في بيروت وعدتُ إلى ما بعد المربع الأول بقليل، لعنتُ جهلي في قطاع المال وصرتُ ألوم نفسي: "لو كنتُ أعلم"، "لو قرأتُ"... لوات لم تنتهِ يومها. وأدركت أن بيروت، العائمة في سيل من الفوضى، وهذا واقع نعرفه جميعاً، إنما تدرّبنا من حيث لا تدري هي ولا ندري نحن، على جلد ذواتنا لنروّض رغبتنا في محاسبة آخرين نظنّ أنهم أكثر قوة منا، إلا أننا وفي خضوعنا مَن منحهم تلك القوة، وأن التغيير يبدأ حين يستغلّ كل منّا موقفاً بسيطاً حتى أو معقّداً وحاسماً، على حسب طاقته، يقول فيه لا من لاءات كثيرة نراكمها جميعاً في سياق تبديلي عوضاً عن أن نلقي اللوم على آخر مختلف، إنما ضحية مثلنا، فنطلق جعجعات كثيرة مكرسّين حضور بالونات حرارية تنفجر بنا، لأننا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي، ونحن مطالبون بأن نواكب العالم من حولنا، شئنا ذلك أم أبيناه، بمعنى أن نهج الحياة بات مختلفاً، وإننا مدينون لبيروتنا باللحاق بذلك.

 

الخلاصة في المرة التالية عندما يسخط أحدهم فلينتبه ولو قليلاً لطرائق عيش آخرين ضحايا مثله لا ذنب لهم.

        
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق