نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في المشهدية السياسية والمدنية للانتخابات البلدية في طرابلس - تكنو بلس, اليوم الخميس 8 مايو 2025 02:04 صباحاً
رغم القلة النسبية المتابعة لمقالاتي والتي كنت أساهم فيها في صفحة القضايا في جريدة "النهار" بصفة شهرية تقريباً منذ عقود، وأحد أسباب هذه القلة أنني ما زلت ألجأ للمقال الطويل، حاملاً إرثه معي من مرحلة العمل الثوري الرومانسي التي طواها القرن الماضي، فقد أنعشني تساؤل البعض من هذه القلة عن تأخري في الكتابة رغم وفرة وحماوة المواضيع والقضايا التي لطالما شكلت محور اهتمامات معظم اللبنانيين، ومنهم أهلنا في عموم الشمال وفي عاصمته الأيقونة الطرابلسية كما أطلق عليها خلال انتفاضة الغضب التشريني.
لا أخفي تأثري باختفاء صفحة القضايا في الحلة الجديدة لجريدة "النهار"، رغم أن موقع الجريدة الإلكتروني ومواقع شمالية ولبنانية وعربية ودولية كثيرة تقوم بدور إعلامي كبير ومتنوع. فأنا أنتمي لجيل الجريدة والكتاب والحوار وفنجان القهوة في المقاهي والمكتبات والمؤسسات الثقافية في المدينة التي كانت تقتات ثقافة وتتغرغر بالسياسة وتتفاخر بالعروبة.
ولطالما تأثرت بالمقاومة الثقافية والمدنية التي يبديها الطرابلسيون في محطات رئيسية من تاريخ المدينة، رغم الصورة النمطية التي انطبعت عنها في أذهان الكثيرين والتي يغذّيها واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي متدهور، يجعلها تبدو وكأنها مكسر عصا حيناً وساحة لتوجيه الرسائل أحياناً، ومكاناً للانتهاكات والحوادث والفوضى في معظم الأحيان.
وهذا ما جعل المدينة القلقة تبدو وكأنها تجمع الشيء ونقيضه في آن، فهي أيقونة الانتفاضة التشرينية وساحاتها جذبت المنتفضين الشباب والنخب المدنية من جميع أنحاء لبنان، و هي الخاصرة الرخوة التي سهل اختراقها وتخريب انتفاضتها بمشاهد مخزية كحرق البلدية والبنوك ومحاولة إحراق السراي أمام أعين القوى الأمنية وبشبه طناش وجبن من فعالياتها السياسية والبلدية.
وطرابلس التي شكلت رأس حربة الانتفاضة السيادية في أعقاب زلزال اغتيال رفيق الحريري، بمقاومة مدنية زاوجت بين ألوان الريشة وبين شلال التظاهر، جرى زجها بمواجهات دموية بين الأهل في التبانة والقبة وبعل محسن. وقائمة المفارقات والإشكاليات تطول بينما تدفع المدينة المظلومة من كيس أبنائها أثماناً مضاعفة، رغم أنها تمتلك ميزات تفاضلية في الموقع وفي التراث وفي التاريخ وفي المرافق وفي شرائحها المتعلمة وفي غنى نسيجها، تجعلها مهيأة لتكون عاصمة اقتصادية للبنان، كما يمكن أن تكون حاضرة ثقافية أيضاً، لما لأهلها من عشق للعلم والثقافة، ضارب في أطناب التاريخ. وقد نشر دار جروس مؤخراً كتاباً بعنوان: طرابلس حاضنة الثقافة في كل الأزمان يلقي الضوء على بعض من غناها الثقافي.
وقال في طرابلس أبو الطيب المتنبي:
أكارم حسد الأرض السماء بهم/ وقصرت كل مصر عن طرابلس.
ورغم تقديرنا لكل من ساهم في نشاطات طرابلس عاصمة للثقافة العربية سنة 2024، إلا أن هذه النشاطات لم تنجح في التقاط روح المدينة ونبضها الثقافي وإرثها الحضاري ونفسها المديني الذي بات يخنقه غبار الإهمال والتخريب والانتهاك الذي يشترك فيه كثر، بما فيهم الكثير ممّن تبوّأ أعلى المناصب الحكومية والبرلمانية والإدارية و البلدية.
وإذ أستذكر ما قاله في المدينة نزار قباني حين وصفها بقارورة الطيب، وأنا أنتمي لجيل شاهد على بعض هذا الطيب، أتطلع لحالتها البيئية والاجتماعية التي تراجعت بشكل كارثي، رغم الأفكار والمبادرات والجهود التي لا تتوقف من مجتمع مدني وأكاديمي لطالما اتسم بالحيوية، ولكن لطالما عانى من بعض الشخصانية ومن ضعف التنسيق والتركيز والمتابعة، خصوصاً مع الجهات والقيادات المسؤولة والتي لم تكن بالإجمال على قدر المسؤولية وقصرت عن حماية مصالح المدينة الصابرة التي دفعت وما تزال تدفع من اللحم الحي أثمان قربها من الفوالق السياسية المتحركة.
ومع أن هناك فرصة لأهل المدينة العريقة لإيصال مجلس بلدي يواكب التحول الإجمالي الذي يمر به الوطن الصغير، لجهة لملمة الأشلاء المبعثرة للدولة المنكوبة وتطبيق الدستور والقوانين، خصوصاً بعد أن استدرج "حزب الله" الوحش الإسرائيلي الفالت من عقاله بإسناده الفارغ لغزة، إلا أن هذه الفرصة لم تلتقط كما يجب على ما يبدو، رغم أهمية المجلس البلدي في حياة المدينة وفي استعادة دورها وفي لملمة جراحها وفي وقف تدهورها البيئي و التنموي والخدماتي والاجتماعي والحضاري، وفي إعادة وصل أحيائها المبعثرة التي تبدو وكأنها من مدن مختلفة، تمهيداً لإعادة بعث دورها الأشمل كجاذبة ليس فقط لعائلتها الشمالية المتنوعة بل لعموم الوطن الذي لطالما دافعت عنه وعن وحدته وتنوعه وعروبته في اصعب الظروف.
هذا لا يعني بأننا نشكك بالمرشحات والمرشحين وكفاءة الكثيرين منهم ساطعة كالشمس، بل بالعكس فإننا نخاف أن نرى هذه الكفاءات تطيش بسبب عدم إدراك طبيعة المرحلة و بعدم تعيين عنوان للمعركة البلدية في الوقت الذي نرى فيه بعض الأمل في معركة استعادة الدولة ودستورها وسيادتها واحتكارها للسلاح بكل أنواعه بما فيها السلاح الفردي المعادي لثقافة المواطنة الذي تعاني منه فيحاؤنا الحبيبة (مع المعذرة من السيد رئيس الجمهورية الذي نحترم مكانته و نقدر دوره عالياً).
ولطالما رفع المجتمع المدني شعار "طرابلس مدينة خالية من السلاح والمسلحين"، علماً أن معظم المسلحين، فضلاً عن مافيا المولدات ومنتهكي المدينة محميون أو على الأقل مسكوت عنهم من السياسيين وأصحاب القرار والشأن.
ويبدو من الأداء الذي نشهده أن معظم نواب وفعاليات المدينة السياسية لا تفضل مجلساً نيابياً قوياً ومتمكناً وحراً وسيداً، لذا نلاحظ أن معظمهم يبدو بلا ملامح واضحة وكأن السياسة قد تبخرت في المدينة وحلت محلها وشوشات الضيعة، إذ العين على الانتخابات النيابية. أما العمل السياسي الحزبي الديموقراطي العابر للطوائف والمناطق فلم يتجدد ويتبلور في المدينة بعد رغم حيوية المشهد الثقافي والمدني فيها.
وهناك حذر من أن يؤدي هذا المشهد الانتخابي كما في حالات سابقة إلى عدم انعكاس جمالية النسيج الاجتماعي في المجلس البلدي، ما يضعف من قوته التمثيلية ويساهم في تهميش دور المدينة وصورتها في مرحلة بالغة الأهمية من تاريخ البلد والمنطقة.
هناك رغبة حكومية واضحة وملموسة بدعم مرافق طرابلس والشمال عموماً، لتلعب دوراً تنموياً رئيسياً في البلد وفي المنطقة. فقد بدأنا نرى جدية في الإعداد لتشغيل مطار رينيه معوض في القليعات وعلينا العمل لتتمدّد الجدية لتفعيل معرض رشيد كرامي الدولي وتطوير مرفأ طرابلس واستكمال المدينة الجامعية في المون ميشال وربما عودة وتشغيل المصفاة بعد دراسة الجدوى مع الشقيق العراقي والقائمة تطول وأوّلها تغيير المحافظ وتعيينات أمنية تواكب العقل الإصلاحي.
وإذا لم نصل لمجلس بلدي قوي وبهوية إصلاحية واضحة في العمل البلدي وبرؤية وطنية وتنموية موحدة تلاقي التوجه الحكومي الإصلاحي وتتناغم مع باقي عناصر القوة الطرابلسية والشمالية، وهو ما يبدو صعب المنال، فربما تتكرر التنازعات وتتوسع شبكة المصالح الفاسدة والتدخلات السياسية فيتفرق العشاق وتتابع المدينة تراجعها التنموي والحضاري وتتكاثر فيها الأمراض والآفات الاجتماعية، خصوصاً في أحيائها الضعيفة والمهمشة التي تعاني من شبه انهيار صحي وبيئي وتربوي مع تدهور كارثي في التعليم الرسمي وتضاؤل في فرص العمل وتآكل في بناها الاجتماعية ما يحوّلها فريسة سهلة للذئاب السياسية و القوى الظلامية.
في هذه المشهدية الرمادية التي تميل للقتامة، ننظر إلى الجانب الملان من الكوب والمتمثل بوفرة المرشحات والمرشحين ذوي الكفاءة والاختصاص، والأمل أن يتحفز أهل المدينة على تشكيل لوائحهم الخاصة بعد أن عجز المجتمع السياسي والمدني بما فيها التغييري عن تظهير نبض طرابلس والإطار السياسي العام الذي تجري فيه المعركة الانتخابية. ومن يدري رب ضارة نافعة.
-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
0 تعليق