إيناس العباسي ترصد التفكّك الأسري شرقاً وغرباً - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إيناس العباسي ترصد التفكّك الأسري شرقاً وغرباً - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 24 يونيو 2025 12:08 مساءً

ثمّة ثلاث وقائع تشكّل نقاط تحوّل في مجرى العلاقة بين بطلي رواية "راس أنجلة" للكاتبة التونسية إيناس العباسي، الصادرة أخيراًعن "دار نوفل" في بيروت، تترتّب على كلٍّ منها نتائج معيّنة؛ فاللقاء مصادفةً بين نادية التونسية وفيليب المتحدّر من أب تونسي وأمٍّ فرنسية في مطعم "ياسمين تونس"، في مدينة تولوز الفرنسية، في بداية الرواية، يؤدّي إلى تعارف بينهما، فمواعدة لأشهر، فمساكنة، فحب، فزواج. وعودته من مهمّة عسكرية في أفغانستان مصدوماً، بعد مصرع صديقه ماثيو، في وسط الرواية، تؤدّي إلى تردّيه في اضطرابات نفسية، تنتابه خلالها نوبات عصبية، فتصطخب أصوات الحرب في رأسه، ويهلوس بكلام غير موزون، ويرتاب في زوجته، فيتّهمها بالتجسّس عليه والتخابر مع الأعداء والخيانة الزوجية، ويقوم بضربها وشتمها، ما يضع العلاقة بينهما على حافّة الهاوية. وولادة ابنتهما آماندين، في نهاية الرواية، تنقذه مما يتخبّط فيه. على أنّ الكاتبة تردم الفجوات بين النقاط الثلاث بمجموعة من الأحداث، الناجمة عنها أو الممهّدة لها، نتعرّف خلالها إلى أعطاب طرفي العلاقة وبعض الشخوص المتعالقة معهما أو مع أحدهما، بشكلٍ أو بآخر.

أسرة ومجتمع
من خلال هذه الأحداث، نتلمّس تأثير العوامل الخارجية، من أسرة ومجتمع، في رسم مسارات الشخوص وصنع مصائرها. وهو ما يفوق تأثير العوامل الداخلية، من خيارات تختارها وقرارات تتّخذها. وبذلك، نكون إزاء مجموعة مسيّرة من الشخوص أكثر منها مخيّرة، تدفعها الظروف الأسرية والاجتماعية إلى سلوكيّات معيّنة، في محاولة منها لتحقيق أهدافها. وخلال هذه المحاولة، تصطدم بعوائق مختلفة تحاول تخطّيها، فينجح بعضها، ويخفق بعضها الآخر. ونستنتج أنّ الإنسان هو نتاج الأسرة التي ينشأ فيها، والظروف التي يعيشها، والدروب التي يسلكها، والقرارات التي يتّخذها، وأنّ عليه أن يدفع ثمن الخيارات المفروضة عليه أو المختارة بملء إرادته، وأن يحصد نتيجة ما زرع.

 

غلاف رواية ”رأس أنجلة” لإيناس العباسي.

 

هذه الاستنتاجات وغيرها، نستنتجها من قراءة الرواية بـ"أجزائها" الأربعة التي تسند الكاتبة مهمّة روايتها إلى ثلاثة رواة، مستخدمةً تقنيّة تعدّد الأصوات الروائية؛ فتروي نادية الجزءين الأوّل والرابع، ويروي زوجها فيليب الجزء الثاني، وتروي شقيقتها ليندا الجزء الثالث. ونكون إزاء ثلاث حكايات خاصّة في الرواية، تتعاقب وتتوازى وتتقاطع وتفترق وتتكامل، لتشكّل الحكاية العامّة للرواية، في إطار خطاب متعدّد، وتطرح أسئلة التفكّك الأسري والمجتمع الذكوري والتمييز العنصري وغيرها.

تعدّد مكاني
 تجري الأحداث بين تونس والإمارات العربية المتّحدة وفرنسا وأفغاستان؛ ويتوزّع المكان الروائي على محلّات الولادة والإقامة والهجرة والعمل والحرب؛ ففي تونس، تولد الشقيقتان نادية وليندا في قرية راس أنجلة، وتقيمان في مدينة بنزرت بعد فرارهما مع الأمّ إليها، اتقاءً  لتسلّط الأب وذكوريته القاسية. وفي الإمارات، تتنقّل ليندا بين الفجيرة ودبي والسطوة، بداعي العمل. وفي فرنسا، تقيم نادية في حي آرنو ـ بيرنار، في مدينة تولوز، بفعل ارتباطها بفيليب. وفي مدينة كابيسا الأفغانية، يشارك فيليب في الحرب، ويُجبَر على القيام بأعمال قذرة، ويخسر صديقه ماثيو، ويُصاب في كتفه، ويعود بصدمة نفسية تجري ترجمتها في نوبات عصبية، وسماع أصوات صاخبة، وهلوسة، وصراخ، وتعنيف الزوجة، وضرب الرأس بالجدار. وهكذا، يتعدّد المكان الروائي، وتختلف وظائفه، كما يتعدّد الزمن الروائي والحكايات والشخوص.

قواسم مشتركة
على هذا التعدّد، ثمة قواسم مشتركة بين الشخوص الثلاثة، تتعلّق بالنشأة والميول والنوازع؛ فيشتركون في: النشأة في أسر مفكّكة، الأعطاب النفسية، النزوع إلى التمرّد، الخروج على المواضعات الأخلاقية، السعي إلى تحقيق الأهداف، ودفع الأثمان الغالية دون ذلك.
ـ  فنادية، الشخصية المحورية في الرواية باعتبارها زوجة فيليب وشقيقة ليندا، تنشأ في أسرة يستقيل فيها الأب من دوره، فلا يقوم بأيّ عمل، ويستغلّ الزوجة ويتّخذها أداة لمتعته الجنسية، ويُصادر ما تجنيه من العمل في الحقول والبيوت، ولا يُولي أولاده أيّ اهتمام، ويُحاول منع بعضهم من متابعة الدراسة، ويقوم بتعنيف زوجته، حتى إذا ما فرّت منه مع أولادها، يتخلّى عنهم، ولا يحاول استعادتهم. تنخرط في علاقة حميمة مع منذر المتزوّج من أخرى، وتتعرّض للضرب معه، من متشدّدين دينياًّ، بعد ضبطهما معاً في شقّة واحدة. تغار من جمال جسد أختها، وتُعجب به، وتعاني من علاقة شائكة بجسدها. تصطدم بعنصرية حماتها الفرنسية. ويكون التحوّل الأقسى في حياتها حين يعود إليها زوجها من أفغانستان في حالة صدمة نفسية، ويتحوّل من حبيب تلوذ به إلى غريب تخاف منه. غير أنّها تُضحّي في سبيل استعادته، فتتخلّى عن عملها ولا تتخلّى عنه، حتّى إذا ما وُلِدت لهما آماندين، يعود إلى طبيعته. ولعلّ الكاتبة أرادت القول، من خلال هذه الشخصية، قدرة الإنسان على تخطّي الصعاب بقليل من الصبر، ونجاحه في التخفّف من الأعطاب النفسية والجسدية بقليل من الثقة بالنفس، وإمكان التحرّر من رواسب الماضي بقليل من الانخراط في الحاضر والتعويل على المستقبل.

صدمة نفسية
في المقابل، ينشأ فيليب بين جدّته لأمّه العنصرية التي ترفض أيّ صلة له بأصله العربي، وأمٍّ مستهترة متعدّدة العلاقات الغرامية، وأبٍ لم يعرفه ولم يسبق أن رآه إلى حدّ الشك بوجوده. يخشى على أخته غير الشقيقة أدريانا من سموم الأمّ وتعريضها الدائم بأبيها البرتغالي. يخجل بـ"شكله العربي" ويتعرّض للتنمّر من رفاق المدرسة الفرنسيين. يعاني مشكلة الهوّية. يضمر غضباً مزدوجًا على الأمّ والأب. وعلى رغم ذلك، يلازمه هاجس العثور على الأخير، فيقيم في حيّ آرنو ـ بيرنار بين المهاجرين العرب لعلّه يعثر عليه، وهناك يلتقي نادية وينخرطان في علاقة حب تتكلّل بالزواج.  يخوض المغامرات مع صديقه ماثيو في تولوز ومارسيليا، حتى إذا ما قرّرا الالتحاق بالجيش والمشاركة في حرب أفغانستان، يكون عليه أن يرتكب بعض الأعمال القذرة تنفيذاً لأوامر رؤسائه ويشعر بالذنب جرّاء ذلك، وتكون الطامّة الكبرى حين يخسر صديقه في إحدى المعارك ويُصاب في كتفه، فتتمّ إحالته على التقاعد، ما يجعله يتردّى في أزمة نفسية عميقة، تتمظهر في سماع أصوات مزعجة، وتوهّم حوادث لا وجود لها، وضرب رأسه بالجدار، وتعنيف زوجته، ما يهدّد علاقته بها، فتأتي ولادة ابنته لتنقذه ممّا يتردّى فيه، وتعيد العلاقة إلى مجراها الطبيعي. وهكذا، تقول العبّاسي، من خلال هذه الشخصية، قدرة الإنسان على التخفّف من تأثير النشأة وتفكّك الأسرة وصدمة الحرب، إذا ما وجد صدراً حانيًا يفيء إليه كصدر زوجته نادية، وصوتاً حبيبًا يُدغدغ سمعه كصوت طفلته آمادين. فخير علاج لتفكّك الأسرة التي نتحدّر منها هو الانخراط في أسرة نبنيها.

حصار وتمرّد
الصوت الثالث في الرواية هو صوت ليندا شقيقة نادية، وهي إذ تشترك معها في النشأة في أسرة مفكّكة، تفترق عنها في توتّر علاقتها بأمّها التي تجبرها على الخضوع لفحص العذرية، جرّاء التشكيك بسلوكها، ما يترك جرحاً غائراً في نفسها. وتشوب علاقتها بأختها برودة وعدم انتظام، ما يحرمها من أذنٍ تصغي إليها، ناهيك بعدم وجود الأب في حياتها. هذه الوضعية تخلق لديها نزوعاً إلى التحدّي والخروج على المواضعات الأخلاقية، فتدخّن خفية عن الأم، وتنخرط في علاقات غرامية متعدّدة، وتسافر إلى الإمارات، وتعمل في صالون حلاقة، تنتقل منه إلى شركة سيارات، فصالون حلاقة مرّة أخرى، وتتعرّض خلال عملها للغدر والخيانة. وإذ تدرك ما تتمتّع به من قوام جميل، تقرّر الاستثمار في جمالها والارتباط برجل إماراتي يحقّق لها حلمها في فتح صالون خاص بها، غير أنّ الرياح لا تجري بما تشتهي، وتكتفي بأن تكون مجرّد عاملة في صالون حلاقة. وإذا كان ثمّة نقاط تقاطع في حكايتها بينها وبين أختها، فإنّنا لا نقع على أيّ تقاطع بينها وبين زوج أختها، ما يطرح مدى تعالق هذا السلك الروائي مع السلكين السابقين، وإمكان الاستغناء عنه من دون أن يضرّ ذلك بالرواية، على بساط البحث. ولعلّ العباسي أرادت أن تقول، من خلال هذه الشخصية، خطأ المراهنة على الجمال لتحقيق الأهداف، فالجمال سلاح ذو حدّين، من جهة، وخطأ التشدّد في تربية الأولاد ما قد يؤدي إلى التمرد على الأهل والخروج على المواضعات الأخلاقية، من جهة ثانية. 

وبعد، إذا كان ثمّة ما يجمع بين الشخوص الثلاثة فهو وقوعهم ضحايا التفكّك الأسري والتشدّد الاجتماعي والفجوة الطبقية والتمييز العنصري، ونجاحهم في تخطّي العوائق الحائلة دون الاقتراب من تحقيق أهدافهم. وبذلك، تعبر العباسي في روايتها عن منظور إيجابي يؤمن بقوّة الإنسان وقدرته على التجاوز والتخطّي، ولن يعود قارئ روايتها من الغنيمة بالإياب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق