جُذورٌ في الأَرض... وحُضورٌ في القَلب - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جُذورٌ في الأَرض... وحُضورٌ في القَلب - تكنو بلس, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 02:37 مساءً

جُذورٌ في الأَرض... وحُضورٌ في القَلب

مِن هُنا، ارْتأَيْنا أَن نَحْتفلَ بيومِ التُراثِ اللُبنانيّ لا كمُناسَبةٍ عابِرة، بَل كوَقفةِ وَفاءٍ لذاكِرةِ الأَرضِ والناسِ، وكجِسرٍ يَمْتدُّ بينَ الماضي العَريق والحاضرِ الطامِح.

د. جنى مكرم بيوض

 

 

 

 في وَطَنٍ من فِتنَةِ الجَبلِ وزينَةِ الساحِل، مِن عبَقِ الأَرْزِ وعِطْرِ الزَهْر، يَنبُضُ التُراثُ اللُبنانيُّ قَلبًا لا يَشيخُ، يَروي التاريخَ حِكايةً لا تَنضَبُ ولا تَنْدَثر. إِنَّهُ الجُذورُ الَّتي مِنها تَنمو فُروعُ هُويَّتِنا، وهو السِراجُ الَّذي يُضيءُ دُروبَنا، في زَمنٍ كادَ فيه البَهاءُ يُنسى، والصَفاءُ يُمْحى.
  مِن هُنا، ارْتأَيْنا أَن نَحْتفلَ بيومِ التُراثِ اللُبنانيّ لا كمُناسَبةٍ عابِرة، بَل كوَقفةِ وَفاءٍ لذاكِرةِ الأَرضِ والناسِ، وكجِسرٍ يَمْتدُّ بينَ الماضي العَريق والحاضرِ الطامِح. 
هكَذا باقَةُ الأَنشِطَةِ الَّتي شارَكَ فيها تَلامذةُ الليسيه مونتاين بيت شباب – المَعفيّونَ مِن تَعلُّم العَربيَّة بحسبِ المَنهجِ الرَسميّ - جاءَت زَهْرًا مَنْثورًا على عَتبَةِ الأَصالَة، وتاجًا يُكَلّلُ رِحْلَةً تَربويّةً بَدأَت مُنذُ مَطلَعِ العامِ الدراسيّ، فكانَتْ هذه الأَنْشِطَةُ: خِتامُها مِسكٌ، وخَرُّ عُنقودِها بَهجَةٌ، ونَموذَجٌ مِن إبْداع.
 تَمَحْوَرتِ الرِحلةُ التَربويَّةُ، هذا العامَ، حَولَ دَورِ الفَنِّ في تَوثيقِ التاريخ، وَدَورِ الفَلسفةِ في اسْتخلاصِ دُروسِ الحَياة، فَجاءَتِ الأَنشطةُ امْتدادًا حَيًّا لمَسارٍ فِكْريٍّ وتَعبيريٍّ بَدأَ مُنذ تشرين الأوّل 2024.
 اسْتَهَلَّ تَلامذةُ الصَفِّ الأَساسيّ السادس رِحْلَتَهُم مَع الحِكاياتِ الشَعبيَّة، يَسْتَقرئونَ مِن خِلالها صَدى التاريخِ في وِجْدانِ الناسِ، ويَسْتَشِفّونَ كَيفَ تَخْتزِنُ الحِكايةُ مَلامحَ الهُويَّة ونَبَض السِياق. ثمّ انْتَقلوا إلى الأَمثالِ الشَعْبيّة، واسْتَخْرجوا مِنها دُروسًا حَياتيَّة. وما كانَ مِنهم، إلّا أَن اختاروا مَثلًا شَعبيًّا، نَسَجوا حَولَهُ قِصَّةً قَصيرَةً سُرعانَ ما حوَّلوها إلى مَسرحيّةِ دُمًى مِن تَصْميمِهم، أَعَدّوا لَها إِعلانَ دَعْوةٍ. تَمَحْورَ هذا العَملُ المَسرَحيُّ حَولَ "البَصل" كمُكَوّنٍ أَساسيٍّ في المُونةِ اللُبنانيَّة، وتَخلَّلَتِ العَرضَ أُغْنِيَةٌ عن البَصل، بالإِضافة إلى عَرضِ مَعلوماتٍ جُغرافيَّةٍ عَن زِراعَتِه في لُبنان، وفَوائِدِه الصِحِّيَّة والغِذائيَّة.
 أَمّا الرِحْلَةُ مَع تَلامِذَة الأَساسيّ السابِع، فكانَت صِلَةَ وَصْلٍ مَع الأساسيِّ السادِس، إِذ غاصَ التَلامِذَةُ في مَفْهومِ البَصَل، كمُكَوّنٍ للتَبّولَةِ اللُبنانِيَّة، وكَنَوعٍ مِنَ المونَة. والمونَةُ فَتَحَتْ نافِذَةً على أنيس فريحة، الأَديبِ الَّذي تَحَدَّثَ عَنِ القَرْيَةِ اللُبْنانِيَّة. وَمِن أَنيس فريحة انْتَقَلَ التَلامِذَةُ إلى أُدَباء لُبنانِيّينَ، وَثَّقوا تاريخَ لُبنان في كِتاباتِهم، وأَضاءُوا على مَلامحَ جَماليَّةٍ تَكْسو لُبنانَ. وَلَم يَكْتَفوا بِهذا، بَل أَجْروا أَبْحاثًا عَن مَساقطِ رُؤُوس هَؤلاء الأُدَباء، منها مثَلًا صَربا، مَسْقَط رَأْس الشاعِر هنري زغيب، وَحَوَّلوا آثارَ هذه المَساقطِ إلى مُجَسَّماتٍ نابِضَةٍ، عَرَضوها في صَفِّهم الَّذي حَوَّلوهُ إلى مُتْحَفٍ يَعكِسُ الدُروسَ المُستَخْلَصَةَ عَن دَورِ المَتاحِف في حِفْظِ الذاكِرَة الجَماعِيَّة وحِمايَتِها. وفي يَومِ التُراثِ اللُبنانِيِّ، عَرَضَ التَلامذَةُ مُجَسَّماتِهم، وعَرَّفوا بميزاتِ بَعضِ المَناطِق اللُبنانيَّة، وغاصوا في أُصول تَسميات المَناطِق، بهَدَفِ إطلاعهم على التنوُّع الحضاري الذي مرت به بلادنا عبر العصور، وذلكَ من خلال مَحطَّةٍ تلفزيونيَّةٍ افتراضِيَّةٍ، صَمَّموا لَها رَمْزًا، وأَعْطَوها اسْمًا وفِقْرَةً بعُنوان "بتعرف إِنّو؟". 
 اسْتكمَلَ تَلامذةُ الأساسيِّ الثامنِ رِحلةَ أَترابِهم في الأساسيِّ السابع، فلم يَكتفوا بالتَعرُّفِ على أَعْلامٍ أُدَباء وثَّقوا تاريخَ لبنانَ وجَمالَهُ في كِتاباتِهم، وتَعَدَّوا ذلك إِلى أَعْلامٍ لبنانيِّينَ فنَّانينَ، أَوْصلُوا لبنان إلى العالَميّة، كالمايسْترو غارو أَفيسيان ومَسرح كرَكَلَّا اللُبنانيّ، ونشَروا عَنهما مَقالًا في جَريدة "النهار". هؤلاءِ التلامذةُ بدأُوا رِحلتَهم في تشرينَ الأَوّلِ بالتعرُّف على دَور الفَنِّ في نشْرِ السلام، فبعَثُوا برسائلِ سَلامٍ إلى الرئيسِ العِمادِ جوزف عون، وكانَ بعدُ قائدَ الجيش، وقابَلُوه بقُلوبٍ مَفتوحةٍ، ورَسائل أُخرى إِلى الصَليبِ الأَحمر، والمُتضرّرينَ مِن حَرب 2024 على لبنان، وإِلى الدِفاع المَدَنيّ. وامْتدَّ مَعهُم مفْهومُ الفَنِّ في نشْرِ السَلام، وبخاصّةٍ عندَما اخْتصَروا المسافاتِ بينَهم وبينَ تَلامذةِ "كليّة مرجعيون الوطنيّة" عبْر لقاءٍ إِلكترونيٍّ، وكذلكَ حينَ عرَضوا ما تعلَّموه عَن مَسرح كَركلَّا، رَمزِ التنوُّعِ الثَقافيِّ، فاكتسبوا دروسَ حياةٍ عن تَقبُّلِ الآخَر، والوحْدةِ الوَطنيّةِ، والصُمود. وفي يومِ التُراثِ اللُبنانيِّ، فَتحَ التَلامذةُ نَوافذَ، مِن كركَلَّا إِلى الأغاني الشَعبيّةِ والدَبكةِ، فَتخلّلَتْ عَرضَهُم مُقتطفاتٌ من الميجانا والعتابا وأبو الزلف، صَدَحَ بها مُخترعُ الآلاتِ الموسيقيَّةِ التُراثيَّة، الفَنّان ناصر مخُّول، فَأشعلَ الحَماسةَ في قُلوبِ الجُمهور. 
 تَلامذةُ الأساسيِّ التاسع أَكْملُوا العُنقودَ برَقصةِ دَبكةٍ لُبنانيَّةٍ على أَنغامِ أُغنيةٍ شَعبيّةٍ، غاصُوا بَعدَها في مَفهومِ المَسرح، فقدَّموا نَبذةً عن تاريخِ المَسرحِ اللُبنانيّ، ومَسرَح جورج خبَّاز ومَسرح الرَحابِنة، مُسلِّطِينَ الضوءَ على التَعاوُن الخَلَّاق بين إلياس الرَحباني والشاعِر هنري زغيب. واخْتَتَم التَلامذةُ المِئةُ الاحتفالَ بإِنشادِ أُغنيةِ "حبّة لولو"، مِن كلماتِ هنري زغيب ولَحْن إلياس الرَحباني. وفي الخِتام، كَرّم تلامذتُنا ضيوفَ الشَرفِ الَّذينَ ساندُونا في رِحلتِنا التَربويَّة. بَعدها تَناولَ المدعوُّون طعامًا لُبنانيًّا على أَنغام "طير الوروار" لفَيروز.
 مِن الواضحِ أَنّ التَلامذةَ لم يُشارِكوا في احتفالِ نِهايةِ السَنة، لأنَّ رحلتَهم التربويةَ ليسَت مَحطَّةَ انْتهاء، بَل مشاريعُ متَتَاليَةٌ مُتسلسلةٌ مُترابطةٌ في عُنقود. في الليسيه مونتاين، مَع كلِّ نهايةٍ بدايةٌ، والبدايةُ مع التَربيةِ على المُواطَنَة، وهي دُستورُ منهَجِنا ومنارةُ أَنشطَتنا في سنينَ مقُبِلة. 
 إنَّ نجاحَ "يوم التراث اللبنانيّ" في مونتاين بيت شباب هو حَصيلةُ تكاتُفِ المَوادّ والتَعاون مع سائر المُعلِّمات. فاللُغةُ العَربيَّةُ وَحدها لا تَرتَقي بمفهومِ التعليمِ إِلى التربيةِ إِلَّا بالتَجانُسِ والتَكاتُفِ والتَمازُجِ مع أَخَواتها الموادِّ الأُخرى، بَعيدًا عن مَحدُوديَّةِ الكتابِ المدرسيِّ وفَهرَسٍ يُقيِّدُ التلميذَ ومعلِّمَه. حين نتحدَّثُ عن التربيةِ، نتحدَّثُ عن مدرسةٍ كوَطَن، وتلامذةٍ كمُواطِنين. إِنَّها تربيةٌ تُسلِّح أَبناءَها بِقِيَمِ الانتماءِ، والمَسْؤُوليّةِ، والاعتزازِ، والكرامةِ، في جَسَدٍ مُحَرَّرٍ من قُيُودِ الصفحات، ليَكونُوا شُعلةً من نُورٍ، تُضيْءُ ظلُماتِ الجهْل، وتَبْني جُسورَ المستَقْبَلِ المهنيِّ في قَلْبِ الحياة. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق