الانتخابات البلديّة والاختياريّة في لبنان بين الطموحات الديمقراطيّة وتطفيل العمل السياسيّ - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الانتخابات البلديّة والاختياريّة في لبنان بين الطموحات الديمقراطيّة وتطفيل العمل السياسيّ - تكنو بلس, اليوم الاثنين 16 يونيو 2025 05:05 مساءً

الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ - أستاذ في جامعة القدّيس يوسف

كشفت الانتخابات البلديّة والاختياريّة الأخيرة عن مفارقة لافتة ليست فريدة في لبنان. ففي حين كان من المفترض أن تُحيي هذه الانتخابات الالتزام في الشأن العامّ وتُرسي أسس بناء ديموقراطيّ، تحوّلت إلى مشهد يزخر بسياسات تطفيل المواطنين. فقد اعتمدت القوى السياسيّة الأساسيّة وبعض الشخصيّات النافذة، على عادتها، شعارات مدروسة، هدفها الاستراتيجيّ معاملة الناخبين، لا بصفتهم مواطنين مفكّرين وناقدين، بل كأنّهم جماهير تستقبل ما يُلقى عليها بسلبيّة وتستسلم لانفعالات بدائيّة.

 

غير أنّ هذا الانحراف الشعبويّ المألوف لا ينتقص من أهميّة إجراء تلك الانتخابات في السياق اللبنانيّ الراهن. فبالرغم من الدعوات إلى تأجيل إجرائها بسبب وضع البلاد الهشّ في أعقاب الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، وضعف مؤسّسات الدولة نتيجة سنوات من التراخي والإفلاس، اتّخذت الحكومة الجديدة القرار الصائب بالمضيّ قدمًا في إنجاز هذا الاستحقاق، لما يمثّله من خطوة إيجابيّة في سبيل إحياء المؤسّسات العامّة، وتعزيز احترام الدستور والممارسات الديموقراطيّة. إضافة إلى أنّ تفعيل دور البلديّات يسهم مساهمة فعّالة في إدارة الشؤون العامّة، وبوجه خاصّ الاستجابة لحاجات ضروريّة للمجتمعات المحليّة، بالرغم من أنّ شحّ الموارد الماليّة لن يسمح للبلديّات بالقيام بكامل واجباتها، فضلاً عن أنّ عددًا منها يخضع لسياسات مرجعيّات خارجها يؤثّر سلبًا في عملها.

 

مهما يكن من أمر، فإنّ تلك الانتخابات اكتسبت عند المرجعيّات السياسيّة أهميّة خاصّة، إذ إنّها مثّلت لها اختبارًا سياسيًّا قبيل الانتخابات النيابيّة المقبلة. وفي هذا السياق، أظهرت النتائج عن ديناميّات عائليّة ومناطقيّة وطائفيّة لا تزال حيّة، ستنكبّ المرجعيّات السياسيّة على تحليلها بغية توظيفها لاحقًا في حملاتها الانتخابيّة، وسيبقى اللجوء إلى ما يُثير الانفعال في الأوساط الشعبيّة هو السائد، بالنظر إلى طبيعة الديناميّات نفسها. لقد أسفرت الانتخابات عن مشهد متوازنٍ نسبيًّا، إذ استمرت الأحزاب المسيحيّة عمومًا محصّنة في معاقلها، وشهدت القيادة السنيّة تشتتًا في مدينة طرابلس، وسُجِّل تراجع نسبيّ في الدعم الشعبيّ لحزب الله بالرغم من فوزه الظاهريّ، ولوحظ ضعف القوى الإصلاحيّة المستمرّ، ونجاح محدود للمستقلّين، وبروز دور لافت للانتماءات العائليّة، وشكاوى من تجاوز المناصفة الميثاقيّة في بيروت.

 

تُثير هذه النتائج تساؤلات بشأن الهوّة بين الطموحات الديموقراطيّة والواقع السياسيّ. فمن الناحية النظرية، يُفترض أن تحفز هذه الانتخابات مشاركة المواطنين في الحياة العامة، وتوقظ حسهم بالواجب المدنيّ، وتكافح خيبة الأمل السياسيّة. كما أنّها تساهم في تجنّب الجمود المؤسسيّ، وتفتح الطريق أمام الإصلاحات، من خلال تجديد السلطات المحليّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تعزز حوكمة أشدّ تطلّبًا وفعاليّة، لا سيّما بفضل إمكانيّة المحاسبة، وتساهم في الاستقرار والنموّ المحليّين، وتضع الأسس لإعادة البناء الوطنيّ والديموقراطيّ. إلاّ أنّ مسار الواقع مخالف تمامًا لهذه الطموحات.

 

من أسباب هذا التباين طبيعة الخطاب السياسيّ المستخدم نفسه. ذلك أنّ الأحزاب والمرجعيّات التقليديّة المهيمنة على المشهد السياسيّ، تعتمد خطابًا استعلائيًّا يروّج لأحكام سابقة وصور منمّطة عن الخصوم، ويُقدِّمها وكأنّها ضمانة طائفيّة ووطنيّة لا غنى عنها. ويُغذّي هذا الخطاب بطريقة غير مباشرة ثمّة تصوّرًا شائعًا في إطارنا الطائفيّ التقليديّ يُفيد بأنّ الناخبين غير ناضجين، مختزلاً في الوقت عينه قضايا الواقع المعقّدة من طريق بثّ شعارات جوفاء، مثل: مدينتنا أولوّيتنا، والسيادة هدفنا، والعدالة ستنتصر بفضلنا، وعملنا هو الإعمار والدفاع، ونحن حماة الهويّة، ونحن من نوقف الهدر والسرقة والفساد، وقولنا هو فعل، وهم مصدر التهديد، ونحن مَن لا يُساوم، وغيرها من شعارات خالية من أيّ مضمون فعليّ أو أيّ رؤية وطنيّة واقعيّة، دورها أن تُثير العصبيّة الحزبيّة الضيّقة أو المذهبيّة أو الطائفيّة فحسب.

 

وغنيّ عن القول إنّ هذا التبسيط المتعمّد في الخطاب السياسيّ وشعاراته مناهض في جوهره بامتياز للديموقراطيّة التي يدّعي هذا الخطاب ظاهريًّا الانخراط بقواعدها. فما غايته إلاّ الدفع باتّجاه تجهيل القاعدة الشعبيّة وإقصائها عن دورها بل وواجبها في النقاش العامّ، وإخضاعها لغريزتها عوض إيقاظ قدرة نقدها الموضوعيّ، وإبقائها أسيرة شعارات فارغة توهمها أنّها تخدم مصالحها. وما يزيد هذا الخطاب وشعاراته خطورة تقديمه الواقع بمنطق ثنائيّ، فهنالك "نحن الأخيار"، و"هم الأشرار"، وهذا لا يؤدّي إلى إثارة الخوف من الآخر فحسب، بل يقضي بالكامل على أيّ ممارسة ديموقراطيّة. ذلك أنّ هذه تفترض وجود نقاش حيويّ بين عدّة أطراف، لأنّها تقوم على مواجهة الأفكار المتعدّدة سلميًّا وموضوعيًّا ونقديًّا، بحيث يزداد تنوير المواطنين في ما خصّ الشؤون العامّة، فيتمكّنوا من التصويت بحريّة ووعيّ ومسؤوليّة، كما تُحفِّز الابتكار السياسيّ من خلال حثّ الأفرقاء على تقديم حلول جديدة للواقع المعقّد والمتغيّر، على خلاف الخطاب التبسيطيّ الذي يوهم بجمود الواقع، ويحصر المشاكل بالخصم.

 

وخلاصة القول إنّ الخطاب السياسيّ المعتمد في الانتخابات والذي تُعبِّر عنه شعارات جوفاء، إن هو إلاّ ترجمة لنزعة أبويّة تعتبر اللبنانيّين جماهير ساذجة غير قادرة على إدراك تحدّيات الواقع وتعقيداته؛ جماهير يسهل استمالتها من خلال عبارات عاطفيّة مبسّطة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق