لاتزال تجربة دبي وصعودها المبهر إلى هذه المكانة العالمية المرموقة، تثير الإعجاب والدهشة، وأيضاً الكثير من التساؤلات عن أسرار هذا الصعود وخفاياه، والأهم كيف تمكّن حاكمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من بناء نموذج المدينة التي باتت تنافس بجرأة وجدارة، مدناً عالمية عريقة بإمكانات ضخمة وتقارعها، بل أصبحت اليوم حلماً للعيش لشريحة واسعة من الشباب من داخل المنطقة وخارجها!

أسرار دبي
بعض هذه الأسرار يرويه كتاب "الشيخ التنفيذي"، والراوي هو الدكتور يسار جرار، الأكاديمي الذي كان يشغل مركزاً مرموقاً في كلية كرانفيلد للإدارة في بريطانيا، والذي كان يخطط لمتابعة عمله هناك، لكنه تلقّى دعوة من دبي عام 2001 للمشاركة في منتدى دبي الاستراتيجي، (إسمه لاحقاً "المنتدى الاستراتيجي العربي").

تخلّلت زيارته تلك نقاشات مستفيضة مع المكتب التنفيذي لحكومة دبي، وسرعان ما أيقن أنه أمام لحظة تاريخية يعيشها الشرق الأوسط ودبي تحديداً. يقول جرار: "تركت خططي المهنية وأبحاثي الجامعية في المملكة المتحدة لأستقر في دبي، وأشهد على بناء اقتصاد فريد في منطقة مليئة بالتحديات، ونموذج تنموي أصبح يعتبر قدوة للدول النامية".

نظرة من الداخل
 جرار الذي شغل منصب مدير التخطيط الاستراتيجي في "المكتب التنفيذي" لحكومة دبي، ويقدم اليوم استشارات على مستوى المنطقة، يضيف: "يقدم الكتاب نظرة من الداخل، على الشيخ التنفيذي الذي يدير دبي، وعلى نهجه القيادي وطريقة إدارته، ويمكن لأي قائد ومدير أن يحسن مهاراته القيادية من خلال دروس الشيخ محمد بن راشد في القيادة". ويصف هذا القائد بقوله:"إنه مزيج فريد يجمع بين القائد الحكومي من ناحية، والمدير التنفيذي لمؤسسة خاصة من ناحية ثانية، فهو صانع لقيم العمل والإنجاز والتقدم، إنه الشيخ التنفيذي".

"دبي تجسد قصة تطور استثنائي في منطقة نالت نصيبها من التحديات، هي قصة مدينة انتقلت من العالم الثالث إلى العالم الأول في أقل من خمسين عاماً، وأصبحت ضمن أهم 10 عواصم تجارية في العالم"، يشرح جرار، ويضيف: "اليوم، يعتمد اقتصاد دبي على الخدمات بما في ذلك التجارة والنقل والخدمات اللوجستية، وتجارة التجزئة والسياحة، فضلاً عن الصناعات الخفيفة والتطوير العقاري، ويعتبر أكثر اقتصادات المنطقة تنوعاً وديناميكية".

جينات دبي
ويشير الكاتب إلى أنّ العديد من التجارب حاولت تطبيق عناصر النموذج نفسه الذي اعتمدته دبي،  لكنها لم تحصل على النتائج نفسها، والسبب يعود إلى الشيفرة الوراثية والمكون الخاص بدبي وهو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يشكل فهم طريقة تفكيره وأسلوب عمله حجر الأساس في نجاح هذه التجربة.

ولفهم الجينات التي تشكل القادة الاستثنائيين كشخصية "الشيخ التنفيذي"، يعود المؤلف إلى جذور العائلة وأثرها في هذا التكوين، بخاصة والده المرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي الأسبق، والذي تعلم منه أولاً الطموح والنظر بعيداً إلى الأمام، وكيف يشارك الناس همومهم وأفراحهم ويستمع إلى آرائهم بشكل مباشر ومن دون حواجز، وأيضاً يشركهم في النقاش حول المشاريع المقترحة، بل ومساهمة بعضهم في تمويلها، مثل مشروع مطار دبي الدولي، وقد حرص الشيخ محمد بن راشد دوماً على تطبيق إرث عائلته و"دستور الإمارة غير المكتوب" والذي يتلخص بالمبادئ الآتية: "الحفاظ على العدالة، العلاقات المتوازنة مع الجميع، والإيمان الراسخ بالتجارة الحرة، والاقتصاد المتنوع"، إضافة إلى الدروس التي تعلمها من والده الشيخ راشد وهي: "هناك دوماً المزيد لتتعلمه، وأحط نفسك بقادة أقوياء، وابق بعيداً عن السياسة".

دروس في القيادة
يشرح الكتاب رؤية الشيخ محمد بن راشد الذي يعرف ما يريد ويسعى إلى تحقيق ذلك بكل عزم ساعياً إلى إزالة العقبات، وإن تطلّب الأمر إحداث تغيير ما، فذلك يتم بسرعة فائقة، وخلاصة فنون القيادة عند الشيخ التنفيذي هي: "ارفع سقف طموحاتك، الوقت هو أهم مواردك، استخدمه بشكل جيد وتصرّف بسرعة، والخيال وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالعمل الجريء والقدرة على تحمل المخاطر، لا تنظر إلى الوراء ولا تدع من يرفضون رؤيتك أن يصرفوا انتباهك، إدارة الانتباه وليست إدارة الوقت".

المركز الأول
ضمن رؤيته الشاملة حول إمارة دبي، يتطلع الشيخ محمد بن راشد إلى المستقبل وتجاهل الماضي، بل يدعو فريقه إلى الانطلاق للوصول إلى المراكز الأولى، وهو ليس مجرد شعار وإنما رؤية يسعى الى تحقيقها.
 ومن بين مقولاته: "نحن بحاجة دائماً إلى طرق جديدة للتفكير والتطوير المستمر والابتكار"، ويصف الابتكار في الحكومة بأنه "سر بقائها وتجددها، وسر نهضة شعوبها وتقدمها".

مهارة التواصل 
يتحدث الكتاب عن موهبة الشيخ محمد بن راشد في التواصل مع الآخرين، لذا يسهل عليه توصيل رسائله وأفكاره عبر مختلف الوسائل، بينها وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يتابعه الملايين من أنحاء العالم، بخاصة من فئة الشباب.

منهج "الشيخ التنفيذي" في الإنجاز
يصف جرار منهج الشيخ التنفيذي في الإنجاز بالبساطة، ويكتب: "كان نهج المكتب التنفيذي بسيطاً ويشبه آلية عمل شركات الاستثمار الخاص مع الفرص المتاحة من حيث التقييم الدقيق للفرصة، ثم وضع رؤية استراتيجية، وتنفيذ خطة العمل، ومتابعة الأداء".

ويعرض الكتاب العديد من القصص التي تعكس هذه المبادئ، بينها قصة نجاح مطار دبي الدولي وتوسعاته اللاحقة، واليوم تظهر البيانات أن عدد المسافرين عبر المطار وصل إلى 92.3 مليون مسافر عام 2024، وبلغ عدد شركات الطيران التي تستخدمه 109شركات، كما تشكل "طيران الإمارات" قصة نجاح أخرى وملهمة، وهي تأسست في منتصف ثمانينات القرن الماضي، برأسمال لا يتجاوز 10 ملايين دولار، ورفض الشيخ محمد بن راشد وقتها مشورة المختصين بالتخلي عن سياسة الأجواء المفتوحة المعتمدة في مطار دبي، للسماح للشركة الناشئة بالنمو، مكرساً مبدأ حرية المنافسة بأوضح أشكالها، واليوم تحتل هذه الناقلة المراتب الأولى عالمياً في العديد من التصنيفات محققة عوائد تتجاوز 22 مليار درهم في السنة المالية 2024-2025، ويؤكّد الكاتب: "هذا هو فكر الشيخ التنفيذي الذي لا يكتفي بالنجاح، بل يستفيد منه كقاعدة انطلاق نحو المزيد".

مواجهة المصاعب
من بين صفات القائد الاستثنائي، قدرته على مواجهة الكوارث والمصاعب، وهذا ما ظهر جلياً عندما واجهت دبي تداعيات الأزمة المالية العالمية 2008، يقول الكاتب: "مثل أيّ قائد عظيم استطاع إعادة الزخم، وتنظيم بعض فرقه الادارية لإحلال المهارات اللازمة، وقاد فترة عظيمة من إعادة الهيكلة والتخطيط والأهم من هذا وذاك التفكير والتعلم".

مهمة صعبة
وأخيراً، إنّ مهمة تلخيص كل الأفكار الواردة في هذا الكتاب القيم، في مقال واحد أمر بالغ الصعوبة، لأنه يسرد قصة قائد ملهم ومدينة لا تتوقف عن التجدّد والابتكار، وقدرتها على تحويل القليل إلى وفرة، وأيضاً تجاوز المصاعب بشجاعة وعزم.