لبنان: تقشّف بالتراضي؟ - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لبنان: تقشّف بالتراضي؟ - تكنو بلس, اليوم الخميس 12 يونيو 2025 02:37 مساءً

رنا فرح

 

 

في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، يزداد العبء المالي على المواطنين، ولاسيما منهم ذوي الدخل المحدود، وسط نظام ضريبي هش وغير مستدام. هذا العبء المتزايد لا يُرافقه إصلاح حقيقي، بل يُحمّل المواطن وحده تكلفة الانهيار، بينما تستمر المنظومة في التلكؤ. كما يزداد العبء على المواطن في ظل السياسات التقشّفية بحيث يدفع المواطن الضرائب من دون أن يحصل على أي خدمات في المقابل. 
بعد انهيار نظام بريتون وودزالذي كان يشكّل إطارًا نقديًا عالميًا منذ إنشائه عام 1944 خلال مؤتمر بريتون وودز بهدف إعادة تنظيم النظام المالي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، سعت الدول الغربية إلى إنقاذ اقتصادها عبر ما يُعرف بسياسة "التقشف بالتراضي"
 (austerity by consent).
فُرضت ضرائب جديدة، وتمّ تقليص الإنفاق العام، وذلك في محاولة لرفع ثقة قطاع الأعمال (promote business confidence)  وتحفيز الاستثمار.
غير أن هذه السياسات لم تحقق النتائج المرجوة، بل أدّت إلى تآكل ثقة الناس بالنظام الاقتصادي والسياسي على حدّ سواء. فقد بات المواطن، كما في حالة لبنان، يتحمّل عبء الضرائب والرسوم المرتفعة من دون أن يقابل ذلك أي خدمات عامة فعلية أو ضمانات اجتماعية، مما عمّق الشعور بعدم العدالة واللامساواة.
وفق تقرير صندوق النقد الدولي خلال زيارته بيروت في ايار\مايو – حزيران\يونيو 2025، يعاني النظام الضريبي اللبناني من ضعف إدارة وتدني مستوى التحصيل، مما يجعل قدرة الدولة على التوسع الضريبي بشكل مستدام هشّة للغاية. فمنذ بداية الأزمة، شهدت الإيرادات الحكومية تراجعاً حاداً، واضطرت الدولة إلى الاعتماد على دعم خارجي عاجل لتغطية العجز المالي.
وقد قدّم صندوق النقد توصيات واضحة لحكومة نواف سلام، بينها الرقمنة، مكافحة التهرب، وتوسيع قاعدة المكلفين، كشرط أساسي للتوصل إلى اتفاق تمويلي. لكن، في ظل فقدان الدولة قدرتها على الجباية العادلة، تُطبق إجراءات قاسية تطاول ذوي الدخل المحدود، فيما تتلكأ السلطات في فرض إصلاحات حقيقية تلزم رأس المال والمستفيدين من النظام الريعي المساهمة العادلة.
يمكن وصف الواقع اللبناني بأنه نموذج من التقشّف "بالتراضي (austerity by consent) ، إذ تُغلف السياسات المؤلمة بخطاب تقني إصلاحي يبدو عقلانيًا ومحايدًا، بينما يُطلب من المواطن وحده تحمّل تكلفة الانهيار المالي والاقتصادي، من دون أن تُقابله أي مساءلة فعلية أو محاسبة للمنظومة الحاكمة التي تسببت بهذا الانهيار.
هذا "التراضي" هو في الحقيقة تراض قسري أو وهمي، تُنتجه ظروف غياب البدائل السياسية، وانهيار الثقة بالمؤسسات، واستخدام خطاب "الإصلاح الضروري" لتبرير رفع الضرائب، خفض الدعم، ووقف الإنفاق الاجتماعي، في حين تبقى بنية الفساد والزبائنية على حالها من دون مساس.
أصوات داخل المنظومة: اعتراضات أم مراوغة؟
في مواجهة هذه السياسات، بدأت تصدر أصوات من داخل المنظومة نفسها تنتقد الاتجاه العام، لكنها لم تقدّم بدائل شاملة. فقد أعلن رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في شباط\فبراير 2025 رفضه لأي زيادة في الضرائب تطاول المواطنين، داعياً إلى مكافحة الفساد وتحسين الجباية بدلاً من "السطو على ما تبقى من مدخرات الناس".
أما رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، فقد شدّد في تصريح في نيسان\ أبريل 2025 على أهمية فرض ضرائب تصاعدية على الأرباح الكبرى ورؤوس الأموال، داعياً إلى ما سماها "عدالة ضريبية حقيقية تُنصف الفئات الضعيفة".
لكن هذه التصريحات، رغم رمزيّتها، لم تترجم حتى الآن إلى مواقف تشريعية حاسمة أو ضغط سياسي فعّال لتغيير السياسات القائمة، مما يعكس حالة من الالتباس بين المعارضة الكلامية والاستفادة الضمنية من النظام القائم. كما برزت أصوات فاعلة من المجتمع المدني والنقابات تحذّر من استمرار سياسة التقشف غير العادلة. عبّر الاتحاد العمالي العام في لبنان عن رفضه سياسات رفع الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل العاملين والموظفين الذين يعانون أصلاً من تدنٍ في الأجور وارتفاع في أكلاف المعيشة. وطالب الحكومة بإعادة هيكلة النظام الضريبي بشكل يضمن توزيع العبء بشكل عادل ويحمي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للعمال.
واليوم، يواجه لبنان نسخة منقوصة من هذا النموذج الـ"نيوليبرالي"، إذ:
تُفرض ضرائب غير مباشرة بشكل غير عادل على الفقراء،
تنهار الإيرادات العامة وتعتمد الموازنة على الاقتراض الداخلي،
تغيب المحاسبة والعدالة في توزيع العبء الضريبي.
نحو عدالة ضريبية حقيقية
إن أي إصلاح ضريبي لا يندرج ضمن إصلاحات هيكلية وجذرية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الركود، وتصاعد التهرّب الضريبي، وتعميق الفجوة بين الدولة والمواطن. فالمنظومة الضريبية ليست مجرد أدوات تقنية، بل هي مرآة للعقد الاجتماعي القائم بين الدولة والمجتمع. إما أن تكون الضرائب أداة للعدالة والإنصاف وتوزيع الأعباء بشكل عادل، وإما تتحوّل إلى وسيلة للقمع والتمييز وإعادة إنتاج الامتيازات. ولبنان يقف اليوم أمام مفترق حاسم: إما الشروع في إصلاح ضريبي حقيقي يخدم الصالح العام ويعيد بناء الثقة، وإما الاستمرار في سياسات التقشف غير العادلة، بحيث تُلقى الأعباء الأكبر على كاهل الفئات الأكثر هشاشة، مما يفاقم التدهور الاجتماعي ويُهدد الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق