نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المقاومة بعد السلاح: آن لـ"حزب الله" أن يرخي قبضته عن الزناد - تكنو بلس, اليوم الأحد 1 يونيو 2025 11:45 مساءً
الباحثة في معهد السياسات البديلة
يجد لبنان نفسه مجدداً على حافة التفكك السياسي والاجتماعي، إلا أن التهديد هذه المرة من الداخل. فعندما يدّعي طرف احتكار المقاومة المشروعة، ويتمسّك طرف آخر بحق الدولة الحصري في امتلاك السلاح، تتحوّل البلاد إلى ساحة صراع على السيادة. وهذا التعارض في الموقف لا يقتصر على الجانب الإيديولوجي، بل هو قادر على الشحن الطائفي وقابل للانفجار في كل لحظة. الخطر لم يعد مجرّد احتمال نظريّ، فمع تحذير قادة "حزب الله" من أنّ "المعارضين في الداخل سيُواجَهون تماماً كما واجهنا إسرائيل، بات الانقسام السياسي يقترب من أن يتحوّل إلى تهديد أمني حقيقي.
فمنذ انتهاء الحرب المدمّرة بين "حزب الله" وإسرائيل بوقف هشّ لإطلاق النار، عاد لبنان ليواجه خطر التفكّك. هذا الاتفاق الذي قبله جميع الأطراف - بمن فيهم حزب الله- بوساطة رئيس مجلس النواب نبيه بري، الحليف التاريخي للحزب، كان واضحاً في هدفه: نزع سلاح "حزب الله" بدءاً من جنوب نهر الليطاني. ومع ذلك عادت قيادة الحزب وتراجعت، ما زاد المشهد السياسي غموضاً وتناقضاً، وأثار مجدداً مخاوف من عودة عدم الاستقرار.
ترسم الخطابات الأخيرة لنائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم صورة متصلّبة لموقف "حزب الله". رسالته واضحة بلا أدنى التباس: لا نية لدى الحزب لنزع سلاحه في الظروف الراهنة. وهو يكرّر بإصرار أن المقاومة ضرورة وفعّالة، وأن وجود الحزب لا ينفصل عن سيادة لبنان. لكن إصراره على أن نزع السلاح ليس فقط سابقاً لأوانه، بل غير مقبول بالمطلق، يشكّل رفضاً جليّاً لشروط وقف النار التي سبق للحزب أن وافق عليها.
هذا التناقض يتجاوز حدود الخطاب، فهو ينسف ما تبقّى من الإجماع السياسي الهشّ في لبنان. إذ يرى قاسم أن سلاح حزب الله لا يُعدّ جزءاً من مشاكل لبنان الداخلية بل "أداة مقدّسة للمقاومة" ينبغي تحصينها من مبدأ حصر السلاح بيد الدولة. وبهذا يعطي إسرائيل ورقة التحكم في خفض التصعيد، معتبراً أن نزع السلاح لن يُطرح أصلاً ما دام الاحتلال قائماً والهجمات مستمرة.
إلا أن السردية التي يتبنّاها الحزب تُحرّف مضمون اتفاق وقف النار. فعلى خلاف ما يدّعيه قاسم، لا يقتصر الاتفاق على نزع السلاح من المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني. لقد ورد هذا البند الجغرافي باعتباره خطوة أولى ضمن خريطة طريق أوسع لعملية نزع السلاح.
"حزب الله" قبل اتفاقاً ينصّ صراحة على أن جنوب الليطاني لا يمثّل سوى نقطة بداية. مع ذلك صرّح قاسم: "التزمنا في حزب الله، كمقاومة إسلامية، كمقاومين من مختلف الأفرقاء، كل مندرجات اتفاق وقف إطلاق النار المعقود، ومكّنا الدولة اللبنانية من أن تنشر الجيش في منطقة جنوب نهر الليطاني، وهو المستهدف بهذا الاتفاق. ونفّذنا منذ خمسة أشهر من دون أي ثغرة، من دون أي خرق، من دون أي تجاوز(...)". هذا التصريح يكشف عن اختزال متعمّد لهدف الاتفاق وإعادة تأطيره بما يخدم سرديّة الحزب.
إلا أن الأمر لا يقتصر على نبرة التحدي من "حزب الله". بينما يتحمل الحزب مسؤولية التزام اتفاق وقف النار الذي قبله، والذي ينص صراحةً على نزع السلاح، فإن الفشل الأوسع في تنفيذه بالكامل قد عقّد المشهد. الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة أضعفت الثقة بالاتفاق وقدّمت لـ"حزب الله" حجّةً بأن مقاومته لا تزال ضرورية.
والمقلق أكثر، هو الخطاب الذي ألقاه قاسم في 18 نيسان، حين صرّح: "سوف نواجه أولئك الذين يهاجمون المقاومة وأولئك الذين يعملون من أجل نزع السلاح... تمامًا كما واجهنا إسرائيل". لم يكن هذا التصريح مجرّد تعبير عن جرأة سياسية، بل مثّل إشارة واضحة إلى أن أي دعوة داخلية لنزع سلاح الحزب ستُواجَه بالقوة. وفي مرحلة يعتمد فيها النظام السياسي الهشّ في لبنان على الحوار الوطني، والتسوية، والعودة إلى الشرعية المؤسساتية، يُمثّل هذا النوع من الخطاب انحرافًا حادًّا عن أي مسار بنّاء، وينذر بتحوّل الخلاف السياسي إلى تهديد أمني مباشر.
أما خطابه الأخير في 28 نيسان، فقد اتسم بقدر من التحفّظ النسبي، لكن رسالته الجوهرية لم تتغيّر. إذ أعاد تأكيد مطالب الحزب الثلاثة: وقف العدوان الإسرائيلي والانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية، والإفراج عن الأسرى. وأصرّ على أنّ الحزب قد أوفى بالتزاماته ضمن اتفاق وقف النار، بما في ذلك تسهيل انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، متهمًا إسرائيل بانتهاك الاتفاق في شكل متكرر منذ توقيعه.
بيد أن الدولة اللبنانية، عبر رئيسها جوزف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، عبرت عن موقف مغاير كليّاً، فقد شدّدت بياناتهما الافتتاحية والوزارية على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وأن تكون هي الجهة الوحيدة المخوّلة اتخاذ قرارات الحرب والسلم. رؤيتهما واضحة: لا مستقبل للبنان خارج شرعية الدولة، ولا مجال لقيام جيوش موازية.
هذه الرؤية تقف في تعارض مباشر مع موقف قاسم. ففيما صرّحت المبعوثة الأميركية الخاصة مورغان أورتاغوس بوضوح أن "نزع سلاح حزب الله أمر لا بدّ منه"، وقرنت دعم واشنطن للبنان بهذا الشرط، ردّ قاسم بأن مثل هذه الخطوة "تخدم إسرائيل" وقد تؤدي إلى مقاومة مسلّحة.
لكن ثمّة مساراً أكثر واقعية يتفادى كلاً من خيار نزع السلاح القسري أو استنثنائه كأمر واقع مستدام. يبدأ هذا المسار بعملية دمج تدريجي لقدرات "حزب الله" العسكرية ضمن الجيش اللبناني، وإلى جانب إصلاح مؤسسي جاد يحوّل الجيش إلى قوة دفاعية قادرة على ردع التهديدات الخارجية. ويمكن استيعاب عناصر وخبرات مختارة من الحزب في شكل مرحلي، بما يضمن بنية أمنية متماسكة.
وفي الوقت نفسه ينبغي إخضاع الشبكات المدنية التابعة للحزب - بما في ذلك مستشفياته ومدارسه ومؤسساته الاجتماعية - لإشراف الدولة وتنظيمها. فالغاية لا تكمن في تفكيك هذه الخدمات، بل في دمجها ضمن الأنظمة الوطنية بما يضمن المساءلة واستمرارية الخدمة، وتكافؤ الوصول لجميع المواطنين اللبنانيين. وذلك يتطلّب أيضاً بذل جهود جدّية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولا سيما في المناطق التي لطالما عانت التهميش واعتمدت بدرجة كبيرة على البنية التحتية الموازية التي أنشأها الحزب.
والأهم أن هذا المسار الانتقالي لا يمكن أن يتجاهل المطالب التي لا يزال قاسم يتمسّك بها: وقف العدوان الإسرائيلي واسترجاع الأراضي اللبنانية المحتلة وعودة الأسرى. لكن لا يجوز تحويل هذه المطالب إلى شروط مسبقة دائمة لتبرير التهرّب من سلطة الدولة. فقد أوضح الرئيس عون في مواقف سابقة أن الإستراتيجية الوطنية تشمل الضغط من أجل الانسحاب الإسرائيلي ووقف الانتهاكات. ولهذا السبب بالتحديد لا بد من أن يكون نزع السلاح جزءاً من استراتيجية دفاع وطني أشمل، لا ملفاً مؤجلاً إلى أجل غير مسمّى أو نقطة مستقبلية غير واضحة المعالم.
وإذا رفض "حزب الله" الانخراط في هذا المسار، وأصرّ على أن سلاحه لا يُمسّ، فهو إذاً لا يحمي سيادة لبنان، بل يُقوّض أسسها.
هناك مسار ممكن لدمج دور الحزب الأمني ضمن مؤسسات الدولة من دون المسّ بكرامة الحزب أو التخلي عن المجتمعات التي نشأ لحمايتها. لكن الخطاب الذي تتبناه الجماعة لا بدّ أن يتطوّر. فلا يمكنها أن تُلوّح بالتهديد بالعنف وهي تطالب بالشرعية، ولا أن تتحدّث عن الوحدة وهي تصوغ نفسها خارج الإجماع الوطني.
الطريق أمامنا لا يمرّ عبر الاستسلام أو المواجهة، بل عبر إعادة الإعمار والمصالحة وإعادة الدمج. وهذا يستوجب ربط الإصلاح العسكري بجهود الإنعاش الاقتصادي، وتجاوز المنطق البالي الذي يفرض على لبنان أن يختار دوماً بين الفوضى والتبعية.
الخيار واضح: مصالحة صادقة تتطلب مسارا واقعيا بدلا من مطالب بعيدة عن الواقع.
0 تعليق