إلى خالتي لبيبة… - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إلى خالتي لبيبة… - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 02:37 مساءً

سارة الدّنف 

 

ها هو أكبر مخاوفي وأكثرها قساوة، يتحقّق. 
ما زلت مرتبكة. لا أعلم لماذا أو كيف أعبّر، فلا الكلماتُ قادرة على رثائِكِ، ولا العيون سوف تكفيكِ دموعاً.
لكنّني أكتب لكِ، كما أفعل في كلّ مرّة تهزمني الحياة، وترميني في دوّامات حيرتها وَموْتِها الّذي لم يسرقكِ منّي سوى عند مفترق المصير. 
أمامَ غيابٍ يأتي برهةً، ومن بعيد، ما الّذي يجدر أن يُقال؟ فهل بقيت في الأفئدةٍ أمكنةٌ للحداد، لَم تسبقها إليها جروحُ الغربة؟
من الصّعب ألّا يكون أوّل ما أذكره هو يوم وفاة جدّتي، وكيف تساءلت ابنة خالتي ببراءة طفوليّة: "أيعقل أن تموت قبل أن تحضر زفافي؟". فاليوم، بعد رحيلِ شقيقتها، وفي وقت، برت الطفولة ملامحها عنّي أسأل:"أيعقل أن تذهبي قبل أن تقرئي الكتاب الذي يؤلَّف عنكِ ولأجلكِ؟".
 منذ ثلاث سنوات، وقبل يومٍ ٍ من سفري، لم أَزُر سواكِ. وكم خشيت، وارتعبت من أن تكون تلك آخر مرّةٍ أراكِ فيها. فأنا لم أطلب منذ ذلك اليوم من الحياة سوى أن يتكرّر لقاؤنا. ولكن ما عساي أنتظر من القدر الّا قسوةً ما بعدها قسوة؟ فلم يكتفِ بأن يأخُذكِ منّي وحسب، من دون أن يُكرِمَني بشبه وداع، بل فعلها "قبلَ يومٍ واحدٍ" أيضًا من أكثر حدثٍ مهمّ في عمري. ليترسّخ بذلك يقيني أنّ الموت ما هو الّا ثأرٌ ضدّنا، ونحن ندٌّ ضعيف نستأثر بحياةٍ فانية.
اعذري كلماتي حبيبتي، فأنا ما زلت موهولة، وأرفض التّصديق. أرفضُ مصافحة الموت، مُتقبّلةً أنّنا جميعنا سائرون "على هذه الطريق". أرفُضُ استهزاءه بِتَعَبِنا وأحزاننا، ومجيئَه المفاجىء وغير المرحّب به. كما أرفض قطعاً، حقيقة أنّ الحياة لا تحارُب لإبقائنا أو إبقاءِ من نحبّ، رغم كلّ ما نقاسيه للبقاء فيها. وكم أكره الى أيّ مدًى تتفنّن في ايذائنا بلا رأفةٍ بنا أو بذكرياتنا.
 أخبريني، الى من سنلجأ بعد اليوم، وكلُّ "عينٍ شرقيّةٍ" تُذرف على فراقِكِ؟ كيف ستنبت تلك الأرض الّتي أحببتها أكثر من أيّ شيء آخر، بل فوق المرض والتّعب؟ فكنّا كلّما افتقدناكِ وجدناكِ فيها، كأنّها كلّ ما يؤاسيكِ في هذا العالم.
 حتمًاً ستضحي قاحلةً، كما ألْفَت جميعُ ذكرياتنا غباراً على أرجوحتك.
وحتماً، لن يكون لنا بعد اليوم حضنٌ نرنو اليه كما كنّا نفعل في السّابق. فما من حضنٍ يشابه حضنَكِ في الكَرَمِ والدّفء والعطاء. فأنا لم أتعرّف الى معنى هذه الكلمات الّا معكِ.
وصدّقيني، ما من صباحٍ سيُماثِلُ صباحاتكِ. تلك الّتي تبدأ باكرةً، مع رائحة القهوة الّتي تجيدين وحدكِ إعدادها كما يجب، مُمتزجةً بحكاياتٍ تروينها بابتسامتك المعهودة، رغم ثقلها وألمها.
حتّى المساءُ، لن يعود مساءً من بعدِك، فما قيمته لو لم نعِشْهُ في دارِكِ، تحت قمرٍ يجاوركِ، ويُسامرُ أسرارَكِ؟ فأنتِ جارة القمر حبيبتي، بل القمر في ذاته، والشّمس، وكلّ ما كان يُفرحني في هذه الحياة اللّاعادلة.
يقال أنّ من يموت، يؤول الى "ديار الحقّ"، لكن أين يكمن الحقّ في الفقد؟  أيّ حقٍّ هذا الّذي يُبنى على فقدانَكِ أنتِ من جلساتنا، وأحاديثنا، وذكرياتنا القادمة؟ أيّ حقّ ذاك الّذي يخطف منّا أجمل ما عشناه بلمح البصر، وكأنّ شيئاً لم يكن، بل كأنّه يسخر منّا ومن تعلّقنا! بل أين الحقّ في أنّ تمرّ أيّامنا بلا زياراتٍ متكّررةٍ الى بيتك؛ ثلاثياً مشاغباً وعاقلاً ومجنوناً، أم "منفردات"، فيكون لكلّ منّا نصيبها الخاصّ من حكمتكِ، وعمقكِ و"هضامَتُكِ" الّتي لا مثيل لها.  وأين الحقّ، في أن تقرئي فنجان مستقبلي، ويغيب عنكِ تحذيري وبيتكِ، من عتمة فنجانكِ ولحظةَ اندثارِه؟
فتماماً، كما غاب الدّفء عن بيت "زهر"، منذ رحيل عَبَقها عنه، فلي أن أتخيّل، كم تغيّر بيت الذكريات بعد أن غابت عنه "لبيبته". لذا، ومن حسن حظّي ربّما، أنّني لم أرَهُ من دونِ سيِّدته، ولم يبقَ في ذهني سوى صورتك فيه، مكانًا يشبه صلابَتَكِ، وقوَّتَكِ، وحروبَكِ دفاعاً عنه. 
فأنا لم أنسَ حبيبتي كلّ ما أخبرتني إيّاه. ولم أتوقّف لحظةً عن رؤيتكِ في كلّ الكتب. لذا أكرّر لكِ الوعد الّذي قطعته عليكِ في عمر الثانية عشرة، بأن أروي قصّتكِ كما أردتِ، وأجعلكِ كما كنتِ دومًا، خالدةً، وعظيمةً بكلّ ما لهذه الكلمات من معانٍ، ما دامت في ذلك فرصةٌ ولو كاذبة بأن أكون أقْرَبَ إليكِ… عسانا نشرب القهوة مجدّداً بين الصفحات، ونضمر، كلّ منّا في عالمها، أملاً بلقاء قريب…

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق