نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حين يصمت الضمير - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 28 مايو 2025 11:45 صباحاً
ليا ابراهيم
تُعتبر الأخلاق جزءاً أساسياً من الوجود البشري، إذ أنها تشكل القاعدة التي ينطلق منها الإنسان في تعامله مع ذاته ومع الآخرين. إن السلوك الإنساني لا ينبع ن الرغبات البيولوجية أو الدوافع الغريزية فحسب، بل يتأثر بشكل عميق بالنظام القيمي الذي يحمله الفرد في داخله. فمنذ فجر الفلسفة، طرح الإنسان سؤالاً مركزياً: ما هو الخير؟ وما الذي يجعل فعلاً ما أخلاقياً أو غير أخلاقي؟ وإذا ما كان الإنسان كائنًا عاقلًا، فهل يُمكن القول أن العقل وحده قادر على توجيه سلوك الإنسان نحو ما هو أخلاقي؟ أم أن الأخلاق تتطلب بعداً وجدانياً وروحياً أيضاً؟
في علم النفس، يُنظر إلى السلوك البشري على أنه نتيجة تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية والتجريبية. لكن هذا التحليل لا يكفي لفهم لماذا يختار الإنسان أحياناً أن يفعل الخير حتى وإن كان على حساب مصلحته الشخصية، ولماذا يشعر بالندم أو تأنيب الضمير حين يرتكب خطأً معيناً. إن الضمير، هذا الصوت الداخلي الذي لا نراه ولا نلمسه، يشكل أحد أعقد الظواهر النفسية المرتبطة بالأخلاق. ولربما هنا يلتقي علم النفس مع الفلسفة في نقطة محورية: الإنسان ليس فقط ما يفعله، بل ما ينويه أيضاً.
كثير من الفلاسفة، مثل كانط، ربطوا الأخلاق بالنية، معتبرين أن الفعل لا يُعتبر أخلاقياً إلا إذا انطلق من نية خيّرة تحترم القانون الأخلاقي. بينما ذهب آخرون مثل نيتشه إلى نقد المنظومة الأخلاقية التقليدية، معتبراً أنها قد تكون أداة للضعفاء للسيطرة على الأقوياء عبر مفاهيم كالذنب والخطيئة. هنا نجد أنفسنا أمام سؤال صعب: هل الأخلاق موضوعية أم نسبية؟ وهل يمكننا أن نحكم على سلوك معين بأنه سيء أو جيد بغض النظر عن الثقافة والسياق؟
في الحياة اليومية، غالباً ما تتجلى الأخلاق في قرارات بسيطة، لكنها تحمل أثراً عميقاً على المحيط. فاختيار الصدق بدلاً من الكذب، أو التضامن بدلاً من الأنانية، هي مواقف لا تتطلب فلسفة معقدة، لكنها تحتاج إلى وعي ويقظة داخلية. وهنا تظهر العلاقة الوثيقة بين الأخلاق والحرية: الإنسان لا يمكن أن يكون أخلاقياً إلا إذا كان حراً. فإذا كان مجبراً على فعل معين، فلا معنى لأخلاقيته من عدمها. وهذا ما يجعل من التربية الأخلاقية مسألة دقيقة، لأنها ليست تلقيناً لقواعد فحسب، بل هي تنمية لقدرة الفرد على الإختيار الواعي وتحمل مسؤولية هذا الإختيار.
لكن، في واقعنا المعاصر، نلاحظ أن الأخلاق قد أصبحت أحياناً نسبية إلى درجة مقلقة. فباسم الحرية، يبرر البعض سلوكيات مؤذية، وباسم النجاح، يتنازل البعض عن قيم الأمانة والنزاهة. وهذا يُظهر أزمة عميقة في الوعي الأخلاقي الجمعي، بحيث لم يعد هناك توافق على ما يجب فعله، بل أصبح كل فرد يصنع قانونه الخاص. وهذا يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لمجتمع أن يعيش من دون مرجعية أخلاقية مشتركة، أم أن ذلك سيؤدي إلى تفكك العلاقات الإنسانية وانهيار الثقة؟
إن السلوك البشري لا يمكن فهمه إلا من خلال الأخلاق، والعكس صحيح. لأن الإنسان، في نهاية المطاف، ليس مجرد كائن بيولوجي أو اجتماعي، بل هو كائن معنوي يبحث عن المعنى، ويُقيّم أفعاله من خلال ضمير حي، وأحياناً معذّب. الأخلاق ليست عبئاً، بل هي ما يمنح الحياة البشرية قيمتها وكرامتها. فمن دون الأخلاق، يصبح الذكاء وسيلة للتلاعب، وتتحول الحرية إلى فوضى، وتفقد العلاقات معناها الإنساني. ولهذا، تبقى الأخلاق حاجة وجودية، وليست مجرد نظام خارجي يُفرض علينا.
ربما لا يوجد تعريف واحد جامع للأخلاق، لكنها تبقى تلك القوة التي تدفع الإنسان إلى تجاوز ذاته الأنانية، والنظر إلى الآخر كذات تملك الحق في الإحترام. فحين نُعامل الآخر كما نحب أن يُعاملنا، نقترب من جوهر السلوك الأخلاقي. وحين نكذب على أنفسنا، ونتجاهل أخطاءنا، نبتعد عن هذا الجوهر، حتى ولو حافظنا على المظاهر. لأن الأخلاق ليست ما نُظهره، بل ما نحن عليه حين لا يرانا أحد.
0 تعليق