نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 – "لستُ هناك": رامبو مر من هنا… - تكنو بلس, اليوم السبت 17 مايو 2025 07:13 مساءً
ساعتان من المشاهدة التي تمزج بين لحظات من الألم والمتعة، الانسجام والنفور، الانجذاب والتمدّد في فضاء البهجة. هو فيلم يشبه الحياة في تنقلاتها المتسارعة، وفي عواطفها الحادة التي تفوق قدرتنا على الفهم أو التحليل.
في هذا الفيلم، يجد هاينز الطريقة المثلى للحديث عن بوب ديلان: الإنسان والفنّان والعشيق و"النبي"، الخارج عن القانون، الأب والمواطن والمناضل والشاعر والموسيقي. أغلب الظن أن هناك طرقاً أخرى لعرض سيرته، لكن هذه الطريقة هي التي تقود هاينز إلى انشراح فنّي، نافضاً الغبار عن سينما السيرة الذاتية الأميركية التقليدية، معيداً إليها بعضاً من شجاعتها المفقودة ومجدها المبعثر.
'لستُ هناك'، المستعاد في مناسبة تكريم هاينز.
يعتمد الفيلم على خمسة ممثّلين مختلفين (وممثّلة واحدة!) لتجسيد شخصية ديلان عبر سبع مراحل من حياته، مستلهماً من أسطورة غناء الفولك الأميركي، وهي الوحيدة التي حصلت على موافقة ديلان شخصياً. الموسيقى في "لستُ هناك" مذهلة، والمعالجة البصرية لتسلسل اللقطات تعيد الأموات من قبورهم، بفضل جمالها الذي يأسر الألباب. توزيع الأدوار يعكس طموحاً من نوع مختلف: كايت بلانشيت، ريتشارد غير، كريستيان بايل، جوليان مور، وغيرهم، يحضرون وكأنهم ريشة في يد فنّان تشكيلي، يُستدعون فقط عند الحاجة، سواء عند التوليف أو السرد. أحياناً، نرى ديلان على هيئة طفل أسود يعزف على القيثارة، منشداً أغاني من تأليفه. أحياناً أخرى، نراه يتقمّص شخصية رامبو في مقر الشرطة. وفي النهاية، يُختم الفيلم بديلان عجوزاً يسكن الغابات، في مشاهد سيكيديليكية لا يمكن أن تُنجز إلا تحت تأثير المخدّرات أو حين يكون الفنّان في حالة انجذاب تام إلى أفكاره. هذه المشاهد تعبر الفيلم، متناولةً خلفية الرواية التي تمتد عبر نحو أربعة عقود من التاريخ الأميركي. من خلال شخصية ديلان، المثال المتجسّد في التمرد والرفض، يقدّم هاينز مزيجاً من الابتكار الفنّي والتساؤلات الوجودية.
النتيجة: فيلم غوداري الهوى، صاخب النبرة، وكأن "عفريتاً" مر بين الثقوب في جانبي الشريط السينمائي الخام، وقلب المشاهد في الاتجاه الذي يريده. الفيلم لا يقدّم لنا صورة جديدة لديلان بقدر ما يجعلنا ننسى كلّ ما نعرفه عنه. فهاينز غير معني بتقديم معلومات في شأنه، وإذا حاول تمرير بعضها، فإنه يفعل ذلك بطريقته الملتوية الحالمة، الرومنطيقية والليريكية.
أنجز تود هاينز عملاً بصرياً كان حتماً سينال إعجاب رامبو لو شاهده. إنه بديل صوري لقصائد الشاعر الذي لم يكن ديلان بعيداً من عالمه، بحيث استعان هاينز من عباراته التأسيسية مثل "أنا هو آخر”.

هاينز أثناء تصوير 'لستُ هناك'.
يضع تود هاينز نفسه أمام رهان صعب بدلاً من تسهيل مهمّته: الاعتماد على عناصر غير شفهية لاستذكار ديلان، وعدم اللجوء إلى المسميات. على الفيلم أن يكون سامياً ويستحق أن يرتقي إلى مصاف الأسطورة التي يرويها، أو أن يختفي من وجه الأرض إلى الأبد. وفي سبيل هذا الإبهار البصري المشبّع بالألوان والأصوات والنوستالجيا، يقدم هاينز على خيارات جمالية ومونتاجية وتأطيرية غير تقليدية. وهذه الفوضى الدرامية المخطط لها، التي يشيّد هاينز حكايته على أساسها، ليست سوى الفوضى التي عاش فيها ديلان. فهذه ليست فوضى تسقط على الفيلم بالمظلة، إنما هي فوضى عضوية، و"المسؤول" عنها هاينز وديلان، اللذان لا يبخلان في توظيف "أفظع" الإمكانات.
قبالة كاميرا هاينز، يتحول أمير الفولك والناطق باسم حركة المناضلين الأميركيين إلى شيء مبهم لا وجه له ولا كاريزما ولا حضور. يجرّد هاينز بطله من سطوته، يمحوه تقريباً، مبنياً إياه كضحية أكثر منه مثالاً أعلى للملايين، لكنه يمنحه الحق في التعبير عن نفسه في لعبة مرايا معقّدة. والأهم أنه يتيح له أن يكون هذا الآخر الذي كان يتمناه، انطلاقاً من عبارة "أنا هو آخر”.
0 تعليق