أرشيف الفاتيكان... حيث يتمركز التاريخ - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أرشيف الفاتيكان... حيث يتمركز التاريخ - تكنو بلس, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 07:08 صباحاً

منذ السابع من كانون الثاني (يناير) 2025، أصبح بإمكان الباحثين الوصول إلى الأرشيف الرسولي، فيُسمح بدخول 60 باحثاً يومياً. مع ذلك، يُطلب من الباحثين الجدد تعبئة نموذج إلكتروني وتقديم المستندات المطلوبة قبل زيارتهم الأولى. وهذا تغيير تاريخي في تقاليد المؤسسة التي تميّزت دائماً بالصرامة في شروط الدخول. فحتى سنوات قليلة خلت، كان الولوج إلى هذه الكنوز الوثائقية حكراً على عدد محدود من الأكاديميين، وبعد مسار تقديم صارم وإجراءات إداريّة عديدة.

يأتي هذا التحديث في قواعد الوصول الى الأرشيف ضمن توجّه أوسع نحو الانفتاح، كرّسه البابا فرنسيس الذي أصدر في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 مرسوماً يقضي بتوسيع الأرشيف والمكتبة الرسولية، من خلال إعادة توظيف بعض مباني الإكليريكية البابوية الكبرى في مجمع اللاتيراني في روما، لتعزيز حفظ الوثائق وتوفير مساحة أكبر لخدمة الثقافة والمعرفة. و يُعدّ هذا التوسّع استمراراً لنهج إصلاحي بدأه الحبر الأعظم الراحل، إذ كرّس التوازن بين حفظ الذاكرة التاريخية من جهة، وتوفيرها للأبحاث الأكاديمية من جهة أخرى.

كان الأرشيف، الذي بات يعرف اليوم باسم "الأرشيف الرسولي الفاتيكاني"، يُعرف منذ القرن السابع عشر باسم "الأرشيف السري للفاتيكان". وقرر البابا فرنسيس في عام 2019 تغيير التسمية لرفع الالتباس المرتبط بكلمة "سري" التي فُهمت بشكل خاطئ على مر الزمن، بينما هي في الأصل اللاتيني "Secretum" تعني "الخاص" أو "الشخصي". أوضح المرسوم البابوي، الذي حمل عنوان "التجربة التاريخية"، أن هذا الأرشيف هو مِلكٌ للكنيسة وخدمة للحبر الأعظم والكرسي الرسولي، ويجب أن يُفهم في هذا الإطار، بعيداً عن النظريات التي وردت في الإعلام والأدب على مدى سنوات.

النشأة والمحتوى
تعود نشأة الأرشيف إلى عهد البابا بولس الخامس في مطلع القرن السابع عشر، حين بدأت الكنيسة بتجميع الوثائق ذات الأهمية في موقع مركزي. واليوم، يمتدّ الأرشيف على أكثر من 85 كيلومتراً من الرفوف، ويحتوي على وثائق تمتد إلى القرن الثامن الميلادي، تغطي مواضيع دينية، ديبلوماسية، سياسية وثقافية. وصفه الفيلسوف الالماني ليبنيتز في عام 1702 بأنه "الأرشيف المركزي لأوروبا"، في إشارة إلى مركزية موقعه في التاريخ الأوروبي والعالمي.

من أبرز مقتنياته: وثائق محاكمة "غاليلي"، مراسلات الملك "هنري الثامن" في مساعيه للطلاق من "كاثرين الأراغونية" للزواج من "آن بولين"، مراسلات مع "فولتير"، "إليزابيث الأولى"، "أبراهام لينكولن" و"الدالاي لاما السابع". كما يحتوي أيضاً على وثائق حرمان مارتن لوثر، وغيرها من الوثائق والمراسلات المرتبطة بوجوه وحوادث تاريخية عظيمة. ويحتوي أيضاً على محاضر مجامع محليّة مثل مجمع "ترنت" في عام 1545، ومجمع "بيستويا" في عام 1786 وغيرها، فضلاً عن أرشيفات الأديرة، الأخويات الكبرى، وأرشيفات الرهبانات والكنائس من مختلف أنحاء إيطاليا وأوروبا، ما يجعله مرآة حيّة للتاريخ الكنسيّ والاجتماعيّ الغربي.

وقد قال البابا بولس السادس في عام 1963: "قصاصات أوراقنا هي صدى وآثار مرور الرب يسوع في العالم"، معبّراً آنذاك عن قدسية ما يُحفظ داخل الخزائن. وأضاف أن "امتلاك هذا الاحترام للوثائق، يعني بطريقة غير مباشرة، امتلاك الاحترام للمسيح، والإحساس بالكنيسة، ومنح أنفسنا ومن يأتي بعدنا تاريخ عبور الرب في هذا العالم".

في عام 2009، صدر كتاب فخم بعنوان "أرشيف الفاتيكان السرّي"، سُمح فيه للمرّة الأولى بدخول مصوّرين ومؤرخين إلى داخل غرف مغلقة في الأرشيف. وضمّ الكتاب أكثر من 100 وثيقة نادرة مع شروحات تاريخية وصور فوتوغرافية تُظهر جمالية المكان وأهميته التاريخية. ووصف الكاردينال رافاييل فارينا، أمين أرشيف الفاتيكان آنذاك، هذا العمل بأنه "حدث تحريريّ استثنائي"، يمنح العامة فرصة نادرة لاكتشاف هذا الكنز الغارق في التاريخ.

بيوس الثاني عشر وموقف الكنيسة
في الذكرى الثمانين لانتخاب بيوس الثاني عشر حبراً أعظم وتحديداً من 2 آذار (مارس) 2019، أعلن البابا فرنسيس عن فتح أرشيف البابا بيوس الثاني عشر (1939 – 1958)، وهي مرحلة حسّاسة تتزامن مع الحرب العالمية الثانية. أثار هذا القرار اهتماماً عالمياً، نظراً للاتهامات القديمة حول "صمت بيوس الثاني عشر تجاه المحرقة".

في المقابل، دافع الفاتيكان عن بيوس الثاني عشر باعتباره اختار العمل خلف الكواليس، مؤكداً أنه فضّل العمل بصمت لحماية الأرواح، وساهم في إيواء اليهود المضطهدين آنذاك ومساعدتهم سراً وبطرق متعدّدة. في حين اعتُبرت الاتهامات ضده حملات هدفها تشويه صورة البابا... أتت هذه الخطوة، التي انتظارها الباحثون طويلاً، تتويجاً لجهود استمرّت منذ عهد البابا بندكتوس السادس عشر، الذي أطلق في عام 2006 عمليّة تحضير الوثائق المتعلّقة بتلك الحقبة وترتيبها.

ليس أرشيف الفاتيكان مجرد مستودع أوراق، بل هو ذاكرة العالم وخزانة قرار وموقع صُنع تاريخ، من محاكم التفتيش إلى الاتفاقيات الديبلوماسية، وغيرها من حكايا العقود المنصرمة وتفاصيلها. وهو اليوم، وبينما يتقدّم الزمن نحو الشفافية والانفتاح، يتحوّل من خزانة مغلقة تُثير الريبة إلى منصة بحثٍ وتاريخ متاحة للجميع، باحثين ومؤرخين، يسعون لفهم وجوه التاريخ من خلال الوثيقة لا الرواية. هكذا تُفتح أبواب الأسرار لتروى، ولعل أكثر ما يميّز هذا التحوّل هو أنه لا ينزع عن الأرشيف هالته الرمزية، بل يمنحه بعداً جديداً أكثر إنسانيّة، حيث تصبح الحقيقة التاريخية في متناول من يسعون إليها بإخلاص وشغف. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق