نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سوريا: خرائط الدم الطائفية من جبال العلويين إلى الدروز - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 7 مايو 2025 11:04 مساءً
جان صالح *
منذ سيطرة "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع على دمشق، كانت الاستراتيجية التي اتبعها لدعم مشروعه السياسي في حكم سوريا قائمة على عنصرين أساسيين: جمع الفصائل المسلحة كلها ضمن ما يسمى وزارة الدفاع، والآخر هو العمل ضمن مسارات تركية وتعزيز الهيمنة العسكرية والسياسية لتركيا على سوريا. فصار جمعُ الفصائل الإسلامية والمتطرفة مع الجهاديين الأجانب ومبايعتهم للشرع رئيساً لسوريا، ثم جاءت سياسة الانفرادية ذات اللون الواحد في تأسيس حكومة انتقالية من خلال إقصاء المكونات القومية والإثنية، من الكرد والدروز والعلويين والمسيحيين، والأحزاب السياسية وممثلي منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان من التشارك في تلك العملية، وبعدها صياغة الإعلان الدستوري المجحف والذي منح فيه الشرع لنفسه سلطات مطلقة للتحكم بالحكومة والدولة كحاكم لها وللمجتمع أرسلته السماء ليكون "الفاتح"، حسب وصف أنصاره.
هذا الواقع المخيف أثار قلقاً عاماً لدى القوى الليبرالية والعلمانية السورية والتي تحلم بدولة ديموقراطية مدنية على أساس فصل الدين عن الدولة، وفق مبادئ المواطنة، وفي الجانب الآخر كان الكرد والدروز يطالبون بدولة ديموقراطية تعددية فيدرالية، وذلك كحل سياسي يحقق العدالة وثقافة الحفاظ على التنوع القومي والإثني والاجتماعي لسوريا، ويضمن حالة دستورية تمنع السلطات من التحول إلى الديكتاتورية، ويمنح الاستقرار والسلام للسوريين وللمنطقة.
هذه الأصوات الديموقراطية دفعت بالشرع وتركيا والقاعدة المساندة لمشروع "دويلة سنية إسلامية مركزية" إلى محاربة ورفض الفيدرالية أو اللامركزية الإدارية والسياسية، واعتبارها تقسيماً لسوريا.
وكان ذلك الموقف المتزمت إعلاناً صريحاً من الشرع بالتوجه نحو مشروع ديكتاتورية دينية أظهرت أننا أمام شخصيتين معاً: أبو محمد الجولاني الذي يتمسك برفاقه من الجهاديين المتطرفين والفصائل الأخرى الموالية لتركيا (رغم ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية)، وأحمد الشرع الذي يريد أن يظهر بمظهر البراغماتي المنفتح على المطالب الغربية، والذي يقترب من المحيط العربي، وبالوقت نفسه يرغب بالتطبيع مع اسرائيل في سبيل أن يتمكن من قبض السلطة وسوريا معاً ومن دون التخلي عن أيديولوجية الفكر السلفي الجهادي، وبالتالي محاولته اتباع تلك السياسة ظنّاً منه أنه ليس هناك بديل عنه في مرحلة سوريا ما بعد الأسد.
كان قتل العلويين على الهوية منذ السادس من آذار/مارس، بحجة هجوم مجموعة من أنصار نظام الأسد على دورية للأمن العام، الطريق نحو تكريس الفكر الطائفي ذي اللون الواحد سياسياً ومجتمعياً على البلاد، وتحوّل ذلك القتل إلى نهج طائفي همجي، بدعوة إلى النفير العام من شيوخ المساجد كإعلان حرب على العلويين، مع سردية أن الفلول هم من يرتكبون تلك المجازر، بتدخل من إيران و"حزب الله"، كتبرير سخيف أمام الانتقادات الدولية والحقوقية، ورداً على الأصوات السورية التي تقف بوجه هذه الثقافة العنفية الظلامية التي تمارسها حتى هذه اللحظة فصائل "الجيش الوطني" التابعة للهيمنة التركية، وعناصر الأمن العام، والجهاديون الأجانب، وعناصر من "داعش"، والتي قتل فيها أكثر من 1700 علوي وحرقت عبرها القرى وحصل النهب والاغتصاب والتهجير.
كان القتلة يشعرون بالنشوة والنصر الإلهي المزعوم في إبادة ضحاياهم مع وصفهم بأقذع النعوت، وهم يسجلون صناعة الموت الطائفي بالكاميرا، متحدّين السوريين والعالم. المثير للحزن والدهشة هو صمت الأغلبية السورية تجاه تلك المجازر بذريعة أن النظام كان علوياً، وأن الطائفة العلوية شريكة مع النظام في قمع السنّة. لكن في الحقيقة أن نظام حافظ الأسد وحزب البعث كان نظاماً سلطوياً - استبدادياً اعتمد على رجال الدين والتجار من السنّة، وأمنياً كان سندَه خليطٌ طائفيٌّ إلى جانب العلويين المقربين جداً من رأس النظام، في حين بقيت الطائفة العلوية الفقيرة مهمشة وضحية تائهة بين علوية الأسد، وتصاعد الخطاب الإسلامي الخاطف للثورة السورية.
حالة التجييش الطائفي داخل الشارع السوري وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، كانت واقعاً قائماً وتطور أكثر من خلال منصات إعلامية مارست التحريض منذ سنوات بحق العلويين والكرد والمسيحيين الصامتين، ولا تزال، وتصاعد ذلك التجييش الطائفي أكثر ليتحول إلى منهجية لفرض واقع سياسي بالعنف على بقية المجتمعات السورية المختلفة في الفكر والهوية والخطاب السياسي. كما تصاعدت حدة تلك القاعدة الشعبية ضد الكرد وتمّ نعتهم بالانفصاليين، والخونة، مع تحريض تركي بسبب رفض الكرد للدولة المركزية، ونقدهم لسياسات الشرع المعادية للتنوع والديموقراطية في سوريا. وتوحدت أصوات الإسلاميين مع القاعدة المؤيدة للشرع وسلطة الأمر الواقع، وتركيا المهيمنة على سوريا، في محاربة المؤتمر القومي الكردي الذي طالب بنظام برلماني لامركزي يضمن حقوق الشعب الكردي دستورياً. ورغم اتفاق الشرع مع قائد "قسد" مظلوم عبدي بضغط أميركي، إلا أن ذلك الاتفاق لن يجد سبيلاً للتطبيق بسبب تركيا التي تسعى لدفع الشرع والفصائل لاستخدام العنف بحق "قسد" والكرد، لقمع مشروعهم في فيدرالية سوريا وحرمانهم من تحقيق أي طموحات سياسية في سوريا الجديدة.
أما الحالة الدرزية فقد حافظت على نفسها من التورط في النزاع السوري المعقد، وانخرطت في رفض الاستبداد، والعمل لأجل سوريا حرة ديموقراطية تشاركية، لكن إقصاء الدروز وبقية الأقليات من التمثيل الحقيقي كشركاء وطنيين في صناعة مستقبل سوريا، دفع بهم لرفع الصوت عالياً برفض سياسات الشرع المنفردة والطائفية، مع تمسكهم بالحماية الذاتية وعدم تسليم السلاح لعدم وجود الدولة المنتخبة من الشعب، وهيمنة ميليشيات جهادية متطرفة على الحكم، وإيمانهم بأن النظام الفيدرالي هو أفضل نموذج للحفاظ على سوريا موحدة من خلال الديموقراطية ودولة القانون والمؤسسات.
لكن ذلك لم يشفع لكل التاريخ الوطني للدروز، بل أدّى التحريض الطائفي من الإسلاميين إلى الهجوم على الدروز في جرمانا ومن ثم في أشرفية صحنايا بحجة إهانة الرسول الكريم، ليتحول المشهد دماً وعنفاً بحق الدروز ونهباً لبيوتهم، مع إهانة مشايخهم وأبنائهم بالضرب وحلق الشوارب وممارسات مخزية، في تقمص لأساليب العنف والقمع والهمجية نفسها التي كان يمارسها النظام السابق بحق السوريين المعارضين. وبعد ذلك جاء الهجوم على السويداء ومحاصرتها من قبل الإسلاميين "المنفلتين" ليكرس أكثر أن حكام دمشق لديهم واجب قمع كافة المختلفين معهم سياسياً وطائفياً.
هذا الهجوم على الدروز دفع بإسرائيل للتدخل بحجة حمايتهم، لكن السبب الحقيقي للتدخل الإسرائيلي هو سيطرة الجهاديين المتطرفين على الحكم في سوريا، وهيمنة تركيا التي تسعى لإقامة قواعد عسكرية في قلب البلاد، لتنافس إسرائيل وإيران في الهيمنة على المنطقة، ورغبتها في تدشين حكم إسلامي سني في سوريا لتكون منطقة جيوسياسية لها ضمن ايديولوجيتها وأطماعها في المنطقة، ولتأخذ دور إيران، ولكن باستخدام الجماعات السنية المتطرفة كأدوات تابعة تحقق طموحاتها التوسعية من سوريا. وهذا ما تعتبره إسرائيل خطاً أحمر قد يدفع حكام دمشق ثمنه.
إن تصاعد الخطاب الطائفي في سوريا يجعل الوضع أكثر تعقيداً، ويدفع بسوريا إلى التقسيم، أو إلى النظام الفيدرالي الذي سيحافظ على وحدة البلاد، ويضمن التشاركية من قبل كافة المكونات، لكن الحقيقة أن الجهاديين لن يستطيعوا أن يكونوا رجال دولة في ظل عدم قدرتهم على الانفكاك عن تاريخهم الظلامي، كما أن تركيبة المجتمع السوري المتنوع ثقافياً وفكرياً وإثنياً تحتاج للديموقراطية وليس للدولة المركزية الفاشلة، وبذلك تصبح سوريا على طريق الاستقرار والازدهار، بعيداً عن محاولات إعادتها للقرون الماضية.
* كاتب سوري كردي مقيم في واشنطن
0 تعليق